تَــــذْكِرَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 11:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تَــــذْكِرَة

نشر فى : الجمعة 16 سبتمبر 2022 - 8:30 م | آخر تحديث : الجمعة 16 سبتمبر 2022 - 8:30 م
عثرت في درج لقطعة أثاث قديمة، بلغت من العمر أرذله، على ورقة صغيرة بها سطور عريضة وكلمات تفصل بينها مسافات بيضاء: كيلو بطاطس.. كيلو طماطم.. كيس أرز.. علبة سمن.. فرح أحمد.. هدية لعلياء.. إجمالي خمسون جنيهًا. لم أستطع تمييز خط اليد ولم أعرف لمن كانت الورقة؛ إنما وشى اهتراؤها بعقود طويلة مرت عليها، وبزمن غير الزمن، وقد بدا ظهورها في هذه اللحظة بمنزلة تذكِرَة مضحكة بما كان وتنبيه لما سيكون.
• • •
التَّذكِرَة في معاجم اللغة العربية بكسر الكاف هي ما يدعو لاستدعاء الأمر وعدم نسيانه، وهي عبرة وموعظة إذا ما كان المرجع آيات قرآنية، أما في استعمالاتنا اليومية فجواز للمرور والعبور؛ يتيح الانتقال من مكان إلى آخر دون معوقات، ويعلن أن لحامله حقوقًا ليست مكفولة للآخرين، وأن في الحصول عليه ميزات لا تتوفر في العادة للجميع.
• • •
ثمة تذكِرَةٌ مُخفَّضة يلجأ إليها الطلابُ لاستخدام المواصلات العامة بانتظام، وأخرى تعفي كبار السن من بعض قيمتها، وثمة تذاكر مجانية تُهدى للمعارف والأصحاب فتسمح لهم بارتياد فعاليات فنية وثقافية دون مشقة، كذلك تراود الذهن تذاكر لحفلات تقام في الساحل الشمالي وتبلغ أسعارها مع الرأفة مضاعفات الألف بالعملة المصرية. صارت هذه الحفلات في الآونة الأخيرة مثار تندر وسخرية، بين أفراد شعب ينازع على حافة الفقر والجوع. صارت أيضًا مثار تحسر وتمنٍّ بين أبناء طبقة كانت وسطى، ثم تدنت فصارت تحفظ ماء الوجه بالكاد، ثم باتت في كرب من أمرها؛ تحاول استبقاء مظهر كريم اعتادته، فيما تكافح في الوقت ذاته لتفي باحتياجاتها الأساسية. حفلة المطربة فلانة والمطرب علان لا تعدم جمهورًا عريضًا واسعًا، فالثروات موجودة والحماسة حاضرة، وإذا هانت فئة وتهاوت فقد حلَّت محلَّها أخرى في أوج الفتوة؛ ترغب في فرض وجودها وذوقها وتؤسس بدأب قواعدها.
• • •
إذا ذكَّر فلان علانًا بأمر ما فقد حثه على استرجاعه واستحضاره إلى واقعه. ثمة مُذكرةٌ يقدمها مرؤوس لرئيسه، ومذكرات يكتبها سياسي أو فنان؛ بغرض جذب الأضواء أو كسب المال، وربما تكون بهدف الحفاظ على معلومات يُخشى أن تتآكل في المستقبل ويطويها النسيان. المُذكِّرَة أغلب الأحيان جافة العبارة محددة الملامح، أما المذكرات فتمتلئ على الأغلب بالصور الجمالية والمجاز.
• • •
نؤكد لأنفسنا دومًا أن النسيان نعمة، وأن الذاكِرةَ القوية الحاضرة نقمة تجعل صاحبها في شقاء دائم؛ إذ تحرمه التخفّف من مشاعر مُقلقة وتجارب مزعجة وصدمات لم تكن في الحسبان. مع هذا يبدو تناسي التاريخ مأساة، فيما التذكِرة به علاجٌ فعالٌ يشبه الدواءَ المُر. ربما انبعثت المرارة من شعور قاس بالتقصير أو بالذنب والندم على ما آلت إليه الحال؛ لكن ثمة دروس وعبر لا مفر من هضمها واستيعابها بل ومراجعتها من آن لآخر؛ عسى أن تمنع تكرار الخطأ وتقي شر سقطة لا دواء لها، وتلهم الناس الصواب.
• • •
تتمتع أجيال الهواتف النقالة المتعاقبة بتلك الخاصية التي يضبط المُستخدِمُ عن طريقها تاريخًا محددًا، للتذكِرَة بعملٍ وجب أداؤه؛ مُناسبة تلزمها تهنئة، زيارة متفق على موعدها، رخصة لا بد من تجديدها، أو طبيب لا مهرب من معاودته. في الإطار ذاته، تحلُّ مواقع التواصُل الافتراضيّ اليوم مَحلَّ الأوراق التي درج الناسُ على كتابتها لتذكرهم بواجباتهم الاجتماعية، والحقُّ أن هذه المواقع قد تحالفت مع الهواتف لتضرب حصارًا حول الفرد أينما كان؛ فلم يعد النسيان عذرًا ولا بات السهو مقبولًا.
• • •
لا زلت أفضل الورقة التي أضعها في جيبي عن استخدام الهاتف في تذكرتي بخطة اليوم، تضيع الورقة أحيانًا وتتمزق في أحيان أخرى؛ فأعيد كتابتها وأنسى بعض ما حوت وأضيف أشياءً لم أدونها سلفًا، وفي اليوم التالي أجد أنني لم أنجز نصفها، أو أنني أنجزت ما غفلت عن كتابته، فأعيد الكرة بلا ملل وأنقش الكلمات باستمتاع.
• • •
تذكرة الحافلة والترام والقطار، تذكرة السينما والمسرح والأوبرا، تذكرة لدخول حديقة وعبور بوابة على حدود محافظتين وللمرور على طريق جديد، ثم تذكرة للوقوف بالسيارة في أي مكان ولو كان بقعة سكنية عادية لا تحوي موقفًا خاصًا. تحولت الحياة إلى تذكرة دائمة.
• • •
في الموروث الديني تختصُّ التذكِرَةُ مَن يخشى مِن البشر، أما مَن لا يخشى فلا فائدة من تذكرته بشيء.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات