ينسب مصطلح «القومية التقنية» إلى السياسى وعالم الاقتصاد الأمريكى الشهير، روبرت رايخ. فعبر مقاربته المستحدثة يؤصل لموجة جديدة من التفكير الاقتصادى، الذى يربط الابتكار التقنى والقدرات التكنولوجية بالأمن القومى للدولة، ازدهارها الاقتصادى، والاستقرار الاجتماعى لمواطنيها.
فى مقال له بمجلة «فوربس» الاقتصادية، سلط الخبير الاستراتيجى، أليكس كابرى، الضوء على مساعى «القومية التقنية»، إلى تغيير الجغرافيا السياسية وهندسة التجارة العالمية. حيث تنطلق من فرضية ولوج العالم حقبة جديدة من المنافسة التقنية النظامية بين القوى العظمى؛ تأسيسا على استراتيجية مفادها أن من يمتلك ناصية التكنولوجيا يقود النظام العالمى الجديد. وتبتغى القومية التقنية تحصيل مزايا تنافسية لأصحاب المصلحة، على الصعيدين المحلى والدولى؛ تمهد بدورها السبيل لإدراك مغانم جيوسياسية. الأمر الذى حض دول عدة على التدخل لحماية قطاع الصناعات التكنولوجية المحلى، من الجهات الفاعلة الانتهازية أوالعدائية وغير الحكومية؛ مع اقتناص مزايا تنافسية لصالح شركاتها العاملة فى ذات المجال. وبناءً عليه، يشدد الكاتب الأمريكى جون بيتمان، على أن «القومية التقنية» تقتضى احتكار الدول، وليس قوى السوق العالمية، مهمة توجيه التكنولوجيا وتسخيرها.
قبل زهاء ثلاثة عقود خلت، لفت المفكر الأمريكى، ألفن توفلر، فى كتابه الصادر عام 1992 بعنوان «تحول السلطة: بين العنف، الثروة والمعرفة»، إلى أن الصراع الدولى القادم سيدور حول المعرفة. وسيكون مسرحه وميدانه عقول البشر، بما تحويه من معلومات ومعارف. وفى سفره المعنون «القومية التقنية»، الصادر عام2022 يؤكد أليكس كابرى أن أمن أية أمة، وتنافسيتها الاقتصادية واستقرارها المجتمعى، إنما يرتبطون جميعا بالإمكانات التكنولوجية لمؤسساتها وشركاتها. حيث يستشرف من واقع مسيرة تنافسية امتدت لعقود بين الولايات المتحدة والصين، دور «القومية التقنية» فى تأجيج الحرب الباردة الجديدة بين البلدين.
تتهافت الدول على تطبيق آليات مدعومة تكنولوجيا تنشد تطبيق وتمكين معايير، غير مسبوقة، حول خصوصية البيانات، المراقبة، الشفافية، المال الرقمى والملكية الفكرية. ويحذر خبراء من أن تفضى الأيديولوجيات المتنافسة بشأن القومية التقنية إلى تهديد النظام الدولى، عبر آليات لم يألفها البشر، منذ التنافس المحموم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى إبان الحرب الباردة الأولى. ولدى افتتاحه الدورة الـ57 لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الأسبوع الفائت، حذر مفوض الأمم المتحدة السامى لحقوق الإنسان من أن العالم يقف عند مفترق طرق. وسينزلق إذا لم يتنبه للأمر إلى مستقبل قاتم. إثر اشتداد وطأة النزاعات، القمع، التضليل الإعلامى، التصعيد العسكرى، السيطرة والهيمنة ؛ فضلا عن تقبل المجتمع الدولى لـتجاوز الخطوط الحمراء فى بقاع ومجالات شتى.
ردا على تنامى وتيرة التفوق التكنولوجى الصينى المقلق استغلت الولايات المتحدة هيمنتها التكنولوجية والرقمية عالميا، لحمل حلفائها على تقييد صادرات تكنولوجيا تصنيع الرقائق الإلكترونية المتقدمة، والأدوات ذات الصلة إلى الصين. حتى يتم حرمان منظومتها الأمنية والاستخباراتية من الحصول على معدات أشباه الموصلات الأكثر تقدما، والتى تساعد على سد الفجوة التكنولوجية بين الجيش الصينى والجيوش الأطلسية. فى هذا السياق، بدأت إدارة الرئيس الأسبق، أوباما، فى التخلى عن انفتاحها على بكين، واعتماد استراتيجية «الفصل التكنولوجى والقومية التقنية» ضدها. بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض طبّق ترامب «القومية التقنية» بصرامة حيال الصين عبر تغليظ ضوابط التصدير، وكبح تدفق التكنولوجيا منها وإليها. كما بات الطلاب والباحثون الصينيون يواجهون صعوبات جمة فى الحصول على التأشيرات، فيما تعرض بعضهم لتحقيقات جنائية وملاحقات قضائية. وفى عام 2018 أقر ترامب استراتيجية جديدة للأمن السيبرانى كرست حماية الأمن القومى، عبر الاستعداد للحرب السيبرانية، من خلال بناء قوة تكنولوجية أكثر فتكا، توسيع التحالفات، والعمل على ردع القوى الدولية المُنافسة.
حرصا منها على سد الثغرات ومنع بكين من تجاوز القيود المفروضة على جهوزيتها لتصنيع رقائق إلكترونية متقدمة، حرصت إدارة بايدن على تحديث تلك القيود بانتظام. كما ضغطت على حلفائها فى أوروبا وآسيا لتشديد القيود على صادرات التكنولوجيا والأدوات المرتبطة بالرقائق إلى الصين. وبحلول مايوالماضى، ألغت تراخيص التصدير، التى تسمح لشركتى «إنتل» و«كوالكوم» بتزويد شركة «هواوى» الصينية بالرقائق لأجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة. وفى الخامس من الشهر الجارى، أعلنت وزارة التجارة الأمريكية عن ضوابط تصدير جديدة على صناعة الرقائق بهدف تقويض قدرات الصين والدول المنافسة الأخرى، بمجال تطوير الحوسبة الكمومية. وفى التاسع من الشهر ذاته، مرَر مجلس النواب الأمريكى مشروع قانون «الأمن البيولوجى»، الذى يستهدف تقييد التعاملات التجارية مع شركات صينية منخرطة بمجال التكنولوجيا الحيوية.
على وقع الهواجس الأمنية، والضغوط الأمريكية، هوى الاتحاد الأوروبى فى غياهب القومية التقنية. حيث دعت بروكسل إلى إنشاء نموذج اقتصادى بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى؛ يستهدف كبح جماح صعود الصين التقنى، وتقويض محاولاتها الرامية إلى التأثير على المعايير العالمية عبر تكنولوجيا الجيل الخامس وما يتلوها من أجيال. وأكدت بروكسل على الحاجة إلى توحيد الجهود الغربية لمواجهة تحركات الشركات الصينية المدعومة من الدولة للتأثير على الاتحاد الدولى للاتصالات والمنظمة الدولية للتوحيد القياسى.
متوسلة مجابهة الحصار التكنولوجى الغربى عمدت بكين إلى تطبيق قومية تقنية تستهدف بناء منظومتها التكنولوجية الوطنية. فوفقا لتقرير نشرته صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية تتبنى بكين حملة لاستبدال التكنولوجيا الأجنبية بحلول محلية. فتوخيا منها لتحقيق الاكتفاء الذاتى التقنى وبلوغ الاستقلال التكنولوجى، أدخلت الصين مبادئ توجيهية تنشد التخلص التدريجى من المعالجات الدقيقة الأمريكية؛ والاستغناء عنها فى أجهزة الكمبيوتر، الخوادم، البرمجيات، أنظمة التشغيل وبرامج قواعد البيانات الأجنبية الصنع بالمؤسسات العامة والهيئات الحكومية الصينية لصالح الخيارات المحلية. الأمر، الذى يشكل وثبة هائلة لبناء بدائل محلية للتكنولوجيا الأجنبية، فى ظل تفاقم الصراع الاستراتيجى مع الغرب. وفى ديسمبر2023، نشرالمركزالصينى لتقويم أمن تكنولوجيا المعلومات، قائمته الأولى للمعالجات وأنظمة التشغيل «الآمنة والموثوقة»، وجميعها من شركات صينية. وتشى التقديرات باحتياج الصين إلى استثمار91 مليار دولار، ما بين عامى 2023 و2027 بغية استبدال البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات فى الحكومة، أروقة الحزب وثمانى صناعات أساسية.
رغم تعزيزها الاستقلالية العلمية وتكريسها الأمن السيبرانى تنطوى القومية التقنية على مخاطر متعاظمة على الأمنيين الاقتصادى والتكنولوجى لدول العالم قاطبة. ففى ديسمبر2022، نشر موقع «بوليتيكو» الأمريكى مقالاً للكاتب «جون بيتمان» الزميل الأول ببرنامج التكنولوجيا والشئون الدولية بمؤسسة «كارنيجى» للسلام الدولى، بعنوان: «الموقف المناهض للصين فى واشنطن سوف يأتى بنتائج عكسية». تطرق خلاله إلى مخاطر انتهاج إدارة «بايدن» استراتيجية عدائية ضد التكنولوجيا الصينية. وأبرزها: إعاقة الابتكارات التجارية والعلمية، فيما يخص الاستخدامات الحميدة لأشباه الموصلات والذكاء الاصطناعى، كمثل أتمتة العمليات التجارية، التجارة الإلكترونية، الأمن السيبرانى، تشخيص الأمراض، والأبحاث المعنية بالتغيرات المناخية.
كذلك، توقعت شركات تصنيع أشباه الموصلات فى الولايات المتحدة تكبد خسائر بمليارات الدولارات، بجريرة تفاقم قيود وضوابط التصدير. وهو ما سيقلص الاعتمادات الضرورية لعمليات البحث والتطوير، التى تضمن الحفاظ على القدرة التنافسية وتحسين قوة الحوسبة على الصعيد العالمى. فقد ألحقت العقوبات الأمريكية على الشركات الصينية أضرارًا جانبية بشركات أمريكية مثل «كوالكوم»، «برودكوم»، «إنتل» وغيرها، والتى تدير استثمارات بمليارات الدولارات مع «هواوى» وحدها. وقد يحول تنافس الولايات المتحدة وحلفائها مع الصين بشأن الصناعات المستقبلية، دون تجنب «متلازمة جالاباجوس». وهى الأطروحة، التى ترى أن حماية الصناعات المحلية ربما تخلق أبطالا قوميين، لكنها تضعف قدرتهم على التكيف والمنافسة بالأسواق العالمية. فبموازاة تعاظم احتمالات توتر علاقات واشنطن بحلفائها الاقتصاديين والتكنولوجيين؛ ستخسر الشركات الأمريكية السوق الصينية الضخمة، جراء قيود التصدير، وما تستتبعه من تسريع لوتيرة تدهور العلاقات، وتآكل لفرص الشراكة البناءة بين واشنطن وبكين.