سخرة ما بعد النهضة - أميمة كمال - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سخرة ما بعد النهضة

نشر فى : الأحد 17 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 17 فبراير 2013 - 8:00 ص

سحقت اليوميات المدهشة للنظام الحاكم الحالى، ورجالاته معظم ما أمتلكه من قدرة على الاندهاش. ولكنى استجمعت بقية دهشة تائهة لدى وأنا اقرأ جانبا من وثائق كبار المسئولين الإنجليز، القابعين فى وزارة الداخلية المصرية فى العشرينيات من القرن الماضى والموجودة فى دار المحفوظات البريطانية. وكان الدكتور رءوف عباس أستاذ التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة قد جمعها فى كتاب ممتع عن «الحركة العمالية المصرية فى الفترة ما بين 1924 - 1937». فقد كان كبار الموظفين الانجليز بوزارة الداخلية فى مصر يمدّون المندوب السامى البريطانى ووزارة الخارجية البريطانية بتفاصيل الحركة اليومية للطبقة العاملة المصرية. ويقدمون الأفكار التى يرون أنها تضمن وضع الحركة العاملة داخل إطار محدد، يقلّل من فاعليتها فى الحركة السياسية. هكذا يصف لنا الدكتور عباس أهمية هذه الوثائق.

 

●●●

 

يروى الميجور (كين بويد) المختص بمراقبة النشاط العمالى بالداخلية «أنه فى يوم 3 يوليو عام 1924 عقد اجتماع بين مدير شركة الملح والصودا بالاسكندرية وبين ممثل العمال، ووافق المدير على إعادة ستة من العمال المفصولين إلى العمل، وعلى أن يضع نظاما للأجور الاضافية. ولكنه رفض الاستجابة لطلب العمال أن يتم تشغيلهم عن طريق الشركة مباشرة دون وساطة المقاولين. ووعد بأن يبذل أقصى جهده لدى المقاولين، لمعاملة العمال بنفس الطريقة التى تعامل بها الشركة العمال المستخدمين لديها. ولكن عند مغادرته، اعتدى عدد من العمال المضربين على المدير وتم إلقاء القبض على 15 منهم. وأعلن المدير على الفور أنه سيسمح للعمال المرغوب فيهم فقط بالعمل، دون قيد أو شرط. فإذا رفضوا ذلك، قامت الشركة بتعيين عمّال جدد. وأنتهى التفاوض عند هذا الحد ولم يبذل المدير جهدا لتحسين أوضاع العمال ولم يكّف العمال عن المطالبة بحقوقهم من المقاول. هذه الوثيقة محفوظة فى دار المحفوظات البريطانية  ضمن مجموعة تقارير كثيرة أخرى.

 

وبالطبع دهشتى ليست من الكتاب ولا من الميجور الذى كتب الواقعة ولا من  المدير الذى رفض مطالب العمال حينذاك ولا حتى من الإستعمار الإنجليزى الذى كان يريد أن يحجم الحركة العمالية. ولكن من أنه بعد مرور 90 عاما على هذه الواقعة، قامت خلالها ثورتان فى مصر بحجم ثورة يوليو وثورة يناير ومع ذلك مازال العمال المصريون يعانون من نفس ظلم شركات المقاولات ونفس قهر المديرين.

 

●●●

 

وإذا كانت دار المحفوظات البريطانية تحفظ لنا تاريخ تعسف المقاولين الذين كانوا يوردون العمال للشركات بحقوق أقل كثيرا من حقوق العمال الذين يعينون مباشرة فى الشركات ذاتها ويستغنون عن العمال الذين لايقبلون هذا الظلم، وذلك بفضل جهد توثيقى من رجال وزارة الداخلية الانجليز. فإن وزارة الداخلية المصرية بلاظوغلى هى الأخرى، من المؤكد أنها ستحفظ فى ذاكرتها الأرشيفية بما تفعله الآن شركة موانئ دبى الإماراتية، التى تدير ميناء السخنة بالسويس. ويصّر مديروها على الاستعانة بشركات مقاولات، تورد لها العمالة المصرية وتغيرها وقتما شاءت.. فالشركة تصر على العمل بنظام المقاولين وترفض تعيين العمال بشكل مباشر حتى تستطيع أن تتخفف من أعباء التثبيت والأجور والتأمينات ومزايا التأمين الصحى والتعويضات فى حالة الإصابات. وتترك العمال رهائن لدى المقاولين واحد بعد الأخر وكل منهم يحاول أن يستقطع جانبا من حقوقهم بقدر ما يستطيع.

 

وفى كل مرة تغير شركة دبى المقاول يكون العمال عرضة للطرد والتشريد. إلا إذا رضخوا، وقبلوا بشروط شركات المقاولات الجديدة، التى تأتى بها الشركة الأمارتية. ولا يخفى أن الشركة الإماراتية هذه حين أنهت عقدها مؤخرا مع شركة المقاولات (بلاتينيوم) ، وطرحت مناقصة جديدة أتت بعدد من شركات المقاولات الأخرى التى تقدمت بأسعار أقل لتقديم نفس الخدمات داخل الميناء. وهو ما جعل العمّال (ما يزيد على 1000 عامل) يتخوفون من العمل مع الشركات الجديدة، التى لم تعط لهم أى ضمانات باستمرارهم فى العمل لديهم. بل على العكس أكد المسئولون فى هذه الشركات، على أنهم غير ملتزمين بتشغيل كل العمال بعد ثلاثة شهور حيث ستكون هذه الشهور بمثابة شهور اختبار. مما يعنى أن هؤلاء العاملين معرضون للطرد، حسب أهواء أصحاب شركات المقاولات.

 

●●●

 

وتماما مثلما كان يوثق الميجور الإنجليزى من 90 عاما، وينحاز فى توثيقه ضد العمال يحدث حاليا فى ميناء السخنة حيث يحمّل المسئولون المصريون ورجال الأعمال الذين تعطلت شحناتهم بسبب إضراب عمال ميناء السخنة وتوقف شحن الحاويات وتفريغها، مسئولية تلك الخسائر. دون أن يشير أحد إلى فساد نظام المقاولات، الذى كان موجودا فى عهد الإنجليز. ولا يجد أحد من المسئولين غضاضة فى استمرار العمل به بعد ثورة يناير، وفى ظل نهضة الإخوان المسلمين.

 

وبدلا من أن تطالب الحكومة المصرية الشركة الإماراتية بتعويض مالى بسبب ما خسرته خزانة الدولة من ملايين الجنيهات بسبب الإضراب الذى استمر لتعنت الشركة مع العمال، نجد المسئولين يضغطون على العمال  للرضوخ لما تجبرهم شركات المقاولات على قبوله. دون أن يسأل واحد من المسئولين نفسه وماذا سيكون عليه الحال لو عاد العمال وقبلوا شروط شركات المقاولات الجديدة التى ستقسم العمال فيما بينها، وبعد ثلاثة شهور استغنت الشركات عنهم خاصة كبار السن منهم هؤلاء الذين قضوا أكثر من 10 سنوات وأتت بعمال آخرين. هل فى هذا الحال سيأتى المسئولون فى محافظة السويس بفرصة عمل أخرى لهؤلاء الذين سينضمون لطابور العاطلين من السوايسة؟ هل سيطعمون أولادهم ويدفعون لهم مصاريف المدارس أو سيتولون دفع إيجار الشقة والغاز والكهرباء؟.

 

وبدلا من أن يخرج مسئول واحد فى الحكومة المصرية يذكّر الشركة الإماراتية بما ينص عليه قانون العمل المصرى فى مادته 79 من أنه «اذا عهد صاحب عمل إلى اخر بتأديه عمل من اعماله أو جزء منها وذلك فى منطقة عمل واحدة، وجب على هذا الأخير أن يسوى بين عماله وعمال صاحب العمل الأصلى فى جميع الحقوق ويكون الأخير متضامنا معه فى ذلك». أو أن يطالب الشركة بتحمّل مسئولية الضرر البالغ الذى لحق بمصر من جراء توقف أحد موانيها ، وهو ما يهدد سمعة الموانئ المصرية كلها أمام منظمة الملاحة الدولية. نجد أن بعضا منهم يطلق دعاوى للتدخل لفض الإضراب بالقوة، وعدم الاستجابة لمطالب العمال الذين لايملكون سوى سواعدهم هى فقط ما يراهنون عليها لتحقيق النصر.

 

وشركة موانئ دبى ليست الحالة الوحيدة الصارخة لنظام سخرة المقاولين ولكن هذه الظاهرة الفاسدة استشرت فى كبرى شركات الأسمنت والطوب وخدمات البترول وغيرها من الصناعات دون أن تخرج الحكومة لتعلن عن خطة لوقف نظام السخرة الذى حول العمال إلى عبيد.

 

●●●

وأظن أنه لو كان الميجور الإنجليزى حيا يرزق الآن لكان قد نصح رجال مرسى بأن يكفّوا عن محاولات قمع الاحتجاجات العمّالية، أو الوقوف ضد النقابات المستقلة التى ربما تستطيع أن تحصل على الأقل على الحقوق التى تعجز الحكومة على تحقيقها للعمال لإنه رأى بعينه أن كل هذه المجهودات قد ذهبت وظلت الحركة العمالية عفية حتى الآن.

 

وربما كانت كلمات عباس حليم الذى كان يرأس اتحاد النقابات فى عام 1935 هى الأكثر تعبيرا عن ذلك. عندما كتب أن «الصديق والحليف الحقيقى للعمال، والذى جعلهم يرتبطون بحركة النقابات، هو دولة إسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء». لقد ساعدنا كثيرا، لقد كنا نعمل بهدوء، فهاجمنا وطاردنا وأغلق مقاراتنا واستخدم الكثير من وسائل البطش. «فتحركنا لمقاومته واتحدنا  ونجحنا».

أميمة كمال كاتبة صحفية
التعليقات