عندما تتسلم رسالة من قلب الصعيد وعروسه المنيا، فأنت سعيد الحظ، لأنك سوف ترى وجها جميلا يزين مقدمة الرسالة، وإذا كنت من مستخدمى شبكات التواصل الاجتماعى، فلن تفارق موقعها، إلا وينابيع الفجر توشك أن تنهمر، وإذا كنت مدعوًا لزيارتها، أو مسافرًا على طريقها فسوف يكون هذا الوجه فى استقبالك بابتسامة ساحرة، تلطف من شمس الصعيد الحارقة، هذا الوجه اتخذته المنيا شعارا لها، لتتفرد بين المدن المصرية بأن يكون رمزها امرأة، والمثير للدهشة والإعجاب أن تكون تلك المدينة فى صعيد مصر، المسكون بقوة الرجل وخشونته، عن حنان المرأة وجمالها.
هذا الوجه الساحر له عشاق كثيرون، يأتون لزيارته من كل مكان؛ حيث يمكث وحيدًا، غريبًا منذ أن فارق وطنه، إلى بلاد جهزت له أفخم الأماكن وأروعها، ومع هذا من يقترب منه يسمع أنين الفراق، ويرى لهفة الشوق، وحنين العودة لوطنه، تنطق به عيونه الحزينة إنه وجه الجميلة «نفرتيتى» مع أن كل شىء فعله «هتلر» تم محوه إلا تلك الإشارة اللعينة، ببقاء تمثال «نفرتيتى» فى ألمانيا، بعد أن وقع فى غرامها، وقد طال الشوق لعشقها القديم «العمارنة» مدينة الأفق، ومن يزور «العمارنة» يشعر بأنفاس زوجة محبة لزوجها «أخناتون» ويلمح عيون يسكنها الجمال، لاختيارها تلك المدينة الساحرة، وقد قيل أيضًا أن «نفرتيتى» هى من اختارت عقيدة التوحيد، رافضة سلطة القديم وقيود كهنة أمون. فمن يمتلك هذا الحضور الطاغى لسلطان الجمال، بالتأكيد يمتلك حضورا قويًا فى التأثير فى الآخرين.
والزائر العاشق لمدينة «الأفق» يرى شروقا حزينا للشمس، لأن شعاعها لم يعد يعانق بالحنين أيادى الجميلة «نفرتيتى».
وفى نهاية الزيارة يرى دموعا فى الشفق، انتظارا لعودة «نفرتيتى»، فهل يأتى اليوم الذى تعود فيه لتسطع من جديد فى سماء «العمارنة»؟
***
إذا كانت «نفرتيتى» قد صنعت حضارة قوامها رفض ظلام القديم وقبحه، واختارت نور الجديد وجماله، فإن تلك الفتاة قد صنعت حضارة رائعة قوامها «الحب والجمال» فقد فتحت عيونها على عيون مصرية ونطقت أول ما نطقت بحروف من حرير، فقد سكن طائر الحب فى قلبها الغض، ونقر حروف وكلمات، وطير زهورًا وياسمين، الحروف غردت بالعشق والكلمات أخضرت بماء الحنين، بأن يبق حبها ما دام عمرها.
فسطرت فى كتاب الخلود أول حروف الغرام. أحبت بملء قلبها، وعشقت بكل جوارحها، فبقيت فى القلوب، قتلها العشق، ولوعها الفراق، فسقطت شهيدة فى نهر الحب والحياة «النيل» والذى كان أحن عليها من قلوب القساة.
فقد خبر النهر بحكم السنين أن على الأرض الفراق قدر العاشقين وأن طائر الحب لا يسكن فى قلب إلا وطار من غضب المستبدين. إنها الصغيرة التى احترقت بنار الحب «ايزادورا» ابنة الحاكم الرومانى لإقليم الأشمونين بالمنيا. والتى أحبت حارسها «حابى» والذى علمها كيف تلمع عينيها ببريق الحب، علمها سر وسحر الحضارة المصرية، ولكن الإمبراطور الرومانى «هدريان» غضب لهذا الحب، فكيف يختلط الدم الأزرق النبيل بدماء الرعية والعبيد. وأمر بنفى هذا الجندى إلى شمال البلاد. وليتحطم قلوب العاشقين، فهذا أمر الإمبراطور وحكم قوانينه، ولكن «ايزادورا» العاشقة تحدت أوامر الإمبراطور وانطلقت للقاء من أحبت. ولكن كما تحطم قلبها، تحطم شراعها، وغرقت فى ماء النهر. لتصبح أول شهيدة للحب والغرام، وأخلد قصص فى سمع الزمان. والزائر العاشق «لتا أونت» تونا الجبل بالمنى، يرى جسدها مسجى هناك. ويسمع همس قلب كالحرير، تردد صداه الطيور والأشجار، بأن الحب الطاهر يصير للخلود.
هذه الفتاة أخذت قلب وعقل عميد الأدب العربى «طه حسين»، فشيد بجوارها استراحة، كان يزورها وينثر الزهور والياسمين على قبرها، متأملا خلود قصتها. من الحب المادى إلى الحب الإلهى، إلى السيدة التى وهبت حياتها لله فاصطفها الله على نساء العالمين، والتى تشرفت المنيا بقدومها مع وليدها. ولأن المدينة أرض التوحيد والطمأنينة من قديم الزمان، فقد باركتها السيدة مريم وابنها عليهما السلام «وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين» صدق الله العظيم.
وقد أجمع العلماء على أن الربوة هى مدينة البهنسا أرض الشهداء بالمنيا، والمعين هو بئر الماء العذب والشجرة التى استظلت يها العائلة المقدسة. وقد شرفت المنيا بأن العائلة المقدسة قد استقرت بمكان آخر وهو جبل الطير بسما لوط وقد شيدت القديسة «هيلانة» فى القرن الرابع الميلادى كنيسة العذراء والتى يحتفل بها كل عام آلاف المصريين مسلمين ومسيحيين تبركا بنبى الله عيسى وأمه عليهما السلام. فى مشهد مصرى خالص، يثير الدهشة والإعجاب بتوحد المصريين تجاه إله رحيم نعبده جميعا.
***
ثم نصل إلى مسك الختام «الزهرة» المصرية ابنة الشيخ عبادة بالمنيا والتى أينعت فى بيت الرضا والنور فى بيت رسول الله «صلى الله عليه وسلم» إلى «مارية» التى تزوجها رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وأنجب منها ولده «إبراهيم» والذى دمع على فراقه قلب الحبيب، فهذا شرف لا يدنوه شرف، بأن تحظى مدينة بأن يكون زوجة خاتم الأنبياء محمد «صلى الله عليه وسلم» منها وأيضا تباركها العائلة المقدسة بالزيارة، فهذه مدينة يرضى عنها الله.
ولأنها مدينة الخصب والنماء، فما زالت تلك الأرض تنبت لنا نساء عظيمات، فهذه سيدة تحمل جينات وجمال السابقات، ويعى قلبها سماحة الإسلام، وأن الله وهب للإنسان عقلا لا يُسدل عليه ستائر الجهلاء أو عبودية الاحتلال. خرجت وأخرجت معها المرأة المصرية يرددن اهازيج الحرية وسقوط الاحتلال ويصبح عيدًا للمرأة المصرية، فى أول كفاحها ضد عبودية الإنسان للإنسان، إنها «هدى شعراوى» زوجة «على باشا شعراوى» رفيق كفاح «سعد زغلول».
وما زالت الشجرة، شجرة المنيا تورق أزهارًا وياسمين فهذه الكاتبة الصحفية وأستاذة الجامعة «نعمات أحمد فؤاد»، ورائدة المسرح والسينما «سناء جميل» ابنة ملوى بالمنيا ثم مخرجة الروائع التليفزيونية «أنعام محمد على» وما زال النهر يتدفق بخير النساء فى المنيا ليسطرن بحروف من نور تاريخ المدينة.
معد برامج تلفزيون الصعيد