المناضل بين الخائن والمنتحر - شريف عامر - بوابة الشروق
الإثنين 8 ديسمبر 2025 10:06 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

المناضل بين الخائن والمنتحر

نشر فى : الإثنين 8 ديسمبر 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : الإثنين 8 ديسمبر 2025 - 7:10 م

أسفل بناية عالية تجمع مكاتب القنوات التليفزيونية فى شارع من شوارع غزة التى كانت، وقفتُ أنتظر طاقم التصوير. وصلتُ من رام الله لإجراء حوارات مع عدد من قيادات الفصائل فى القطاع.

سألنى شخص من فريق آخر عمّا سأقوم بتصويره اليوم؟

هممتُ مجيبًا، فجاء صوت زميلى المصوّر من خلفى فى ذات اللحظة:

«والله راح نصوّر تقريرًا عن معاناة أطفال المخيمات».

فهمتُ أن إجابته مقصودة، وأنها لم تكن إجابة تقليدية بين المتنافسين، لكن كتمتُ حيرتى وأجلتُ سؤالى.

• • •

فى الباص الصغير، جاءنى صوت زميلى وصديقى العزيز قاسم الخطيب، الذى أدين له بفضل تعريفى بالحياة اليومية الفلسطينية التى لا نعلم عنها الكثير، وكنتُ قد طلبتُ منه المساعدة فى فهمٍ أعمق للشخصيات التى سألتقيها قبل الوصول إلى غزة:

«كنتُ عارفًا إنك فاتح التليفون، وبدى أقولك تقفّله وتنزع بطاريته حتى تنتهى مهمتك. دير بالك على حالك».

ما قاله قاسم لفت نظرى إلى أن أحدًا من أفراد الطاقم لم يستقبل أى مكالمات منذ أن بدأنا الطريق.

• • •

قبل الوصول بقليل، بدّلنا باصًا بآخر، وما إن وصلنا حتى وجدتُ الشباب ينتهون من وضع الكاميرات والإضاءة، وترتيب الموقع فى فترة لم تتجاوز 20 دقيقة، وهى أمور تحتاج فى المعتاد إلى ساعة على الأقل! أجريتُ الحوار، وغادرنا فى فترة لم تتجاوز 45 دقيقة.

• • •

فى طريق العودة، تبدّل وجوم وصمت فريق التصوير إلى صوت عالٍ من النقاشات والمزاح، وعادت الهواتف ترن لتحدد ما تبقّى من عمل، أو مواعيد لقاءات العشاء والقهوة فى المساء.

كنتُ فى الأراضى الفلسطينية أخلع دروع الريبة والخوف حتى هذا اليوم.

قال لى زميلى المصوّر:

«أما تروح تصوّر مع مطلوب للإسرائيليين، ما تحكيش مع حدا مش معاك فى المشوار».

• • •

أدركتُ عمليًا أن حياة الفلسطينى اليومية أكثر تعقيدًا من قدرتى على الاستيعاب. إن الخيانة فى بلد محتل من وقائع الحياة. وأن ذلك لا يصيبهم باندهاش أو صدمة، وأن ما نالته نهاية أمثال ياسر أبو الشباب من اهتمام من جانبنا لا يعنيهم كثيرًا، ولا يمنعهم عن عمل أو هدف.

• • •

نهايته المحتومة، بغض النظر عن ملابساتها، يعرفها المواطن الفلسطينى، كما عرف لها سوابق عديدة. ما زالت تصدمنا نحن، بينما يعيشون معها، ولا يتوقفون عندها.

مع وجه الخائن، لمعت الشاشات بصورة أخرى من الجانب الآخر... وجه المنتحر.

• • •

نشرت «هاآرتس» الإسرائيلية أنه شارك فى الحرب على غزة من يومها الأول مساء السابع من أكتوبر 2023، وأنه شارك ضمن الموجات البرية المتعددة للجيش الإسرائيلى داخل أنحاء غزة.

• • •

كتب القناص الإسرائيلى على صفحته: «فعلتُ أشياء لا تُغتفر».

القناص القادم من ليتوانيا إلى حلمه المزيّف، وصف نفسه بأنه مات يوم دخل إلى غزة فى السابع من أكتوبر 2023، وأنه غير قادر على النسيان أو التعايش مع ما فعل.

كتب هذه السطور ثم انتحر.

• • •

نقلت الصحافة الإسرائيلية الخبر، وأشارت إلى أن الأعداد الرسمية لمحاولات الانتحار فى صفوف القوات العاملة فى غزة قد سجلت 279 حالة، دون إشارة إلى ما تم فعلاً أو اقتصر على المحاولة، لكن الخبر لهم فى العدد غير المسبوق.

• • •

الأكيد أن الحادث الأخير وما سبقه كاشف.

تحولت حياة القناص الإسرائيلى إلى عبء على روحه.

لخّص الشاب الجريمة الإسرائيلية فى عبارة واحدة: «فعلتُ أشياء لا تُغتفر».

بين الخائن والمنتحر، وجد المناضل نفسه.

الأول والثانى أفراد، أما الثالث فهو شعب لا فرد.

يولد ويموت، يصحو وينام، ويناضل ضد الاثنين. يميّز الخائن، ويدرك وجوده على تعدد هيئاته وأدواره. يرى القناص القادم من أقصى الأرض مدعيًا ما ليس له، فيغرق فى دمٍ شربه.

مصير الخائن محسوم، ومصير المنتحر معروف، سواء فشلت محاولة الانتحار أو تمت.

• • •

بينهما المناضل شعبًا بأكمله، يرانا نتحدث، ونكتب، ونطلق الأوصاف، ونستهلك القوالب الجاهزة من قبل نصف القرن الماضى إلى اليوم، لكنه يبقى على الأرض.

هكذا ظل المناضل شعبًا، والخائن فردًا، والمنتحر قاتلًا.

كل صفة من الصفات الثلاث تجمعت خلال أيام فى حوادث عابرة، لكنها لخصت تاريخًا، وعبّرت عن واقعٍ وموقع المنتمى لها.

التعليقات