النيل والفلاح.. من الذى وفَّـى؟ - عادل سليمان - بوابة الشروق
الثلاثاء 13 مايو 2025 9:34 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

النيل والفلاح.. من الذى وفَّـى؟

نشر فى : الخميس 8 سبتمبر 2022 - 6:50 م | آخر تحديث : الخميس 8 سبتمبر 2022 - 6:50 م

حين يقترب من النهر تسمعه يقول «أعز خلقى على نهرى» وعندما تسأله عن معناها، يقول بيقين النيل نهر الله. فهو نيل فى الجنة ونيل فى مصر، ومصر فقط. ثم يضيف فرحا وأنا المصرى أعز خلقه، فلذلك أسكنى جنته على أرضه، أسكنى مصر. فالماء والخضرة حولى أما الوجه الحسن، فيقول ضاحكا انظر إلى يا رجل ألست خلق الله الحسن؟ وبالفعل تنظر إليه فترى وجها جميلا، فيه صفاء سمائه وعزوبة نهره.
ما يثير الدهشة والإعجاب لماذا لم يتخلَ عن مهنته القاسية منذ آلاف السنين، مثل كثيرين. انقرضت مهنهم، يأتى رد الحكمة منه إنها ليست مهنة، بل هى حياته. ثم يضيف انظر إلى معنى اسمى فأنا من يرفع الله بعرقه السنبلة بالقمح. ومن أجل صغارى يملأ ربى الضرع بالحليب. ويفيض لى النهر بالخير، يقطع من أجلى آلاف الأميال لنحول سويا الصحراء الجرداء إلى واحة خضراء. حياته تشبه إلى حد كبير الملاحم القديمة. والتى حكمت عليها الآلة بالشقاء والألم. ولكن بصبره وبصيرته حول الشقاء إلى حكمة، والألم إلى قوة. كأنه الصوت القديم اجعله يشكو لتسمع منه الحكمة، ما زال يتردد فى جنبات الوادى. يتحمل العمل الشاق صابرا وفى الغالب مغنيا، زرع بذور الصبر والألم منذ استقراره قرب النهر. والذى وهب له الخير والجمال، وحمل له الخصب والنماء وعلمه فنون الحياة. ذلك هو الفلاح فى مصر.
والذى تحتفل مصر فى التاسع من سبتمبر بعيده والذى اتخذته ثورة يوليو من ثورة عرابى عيدا للفلاح. وقد مر عيد وفاء النيل فى الخامس عشر من أغسطس الماضى من دون التذكير أو الاحتفاء به. بالرغم من أن نقطة المياه ودوامها هى الحياة وبدونها الفناء. وهنا يبرز السؤال المهم من الذى وفى تجاه صاحبه الفلاح أم النهر؟! ينطلق رسول قلب أفريقيا، حاملا البشائر وقاصدا بلدا بعينه، يشق طريق الصعاب لجهة تملأ بالحنين قلبه. ليروى عطش بلد غاب عنه المطر. يحمل له شرابه وطعامه معا، أعذب المياه وأصفاها لشرابه، أما طعامه ففى إخصابه للأراضى المصرية وكسوتها بالطمى والغرين؛ ليخرج له من نبات شتى، فيه حلاوة المذاق وجمال المنظر. ويحمل له فى أحشائه لحما طريا، أسماكا شهية أسماك المياه العزبة.
• • •
لذلك قدس المصرى القديم النهر وأدرك قيمته وأقام له الاحتفالات الكبرى لوفائه. وكانت الشهادات الأولى أمام محكمة الحياة الأبدية القسم بعدم تلويث مياه النهر. هذا الفيض السماوى القادم من الجنوب، المهاجر إلى الشمال. والذى يقطع مسافات بعيدة، ويخترق صحارى وجنادل وصخورا، بدون أن يساعده رافد أو أن يحمل عنه أخ له. وكأنه أوجده الله لذلك البلد البعيد فى أقاصى الشمال، والذى يكابد الأشواق للوصول إليها. ولقد أخذ النهر وسحره عقول وقلوب كثيرين. من مكتشفين ورحالة ومؤرخين وأدباء وفنانين إلى قادة عسكريين. فهذا المؤرخ هيرودوت والذى جعل مصر وحضارتها هبة النيل.
وهذا قائد عربى يصف مصر لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «ويخطها يا أمير المؤمنين نهر مبارك الغدوات، ميمون الروحات، يجرى بالزيادة والنقصان كجرى الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه، وتكثر أمواجه. فتخرج جماعة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون الحب ويرجون النماء من الرب، فإذا أشرق الزرع وأشرف نقاءه من فوقه الندى، وغذاه من تحته الثرى. فإذ مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، فإذ هى عنبرة سوداء، فإذ هى زمردة خضراء، فتبارك الله الخالق لما يشاء». هذا الوصف ليس لشاعر أو أديب بل هو للقائد العربى عمرو بن العاص يصفه لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
أما الباحث عن المجد على ضفاف النيل نابليون بونابرت فقد سحره النهر، فرفعه إلى أن جعله رسول الخير، والصحراء رسول الشر. يكسب النهر من الصحراء بفضل إدارة رشيدة، فتكسب الصحراء من النهر بفعل إدارة رديئة فى مصر النيل والصحراء ماثلين على الدوام. حتى فى منفاه فى جزيرة القديسة هيلانة لم ينسَ نابليون النيل فرسم مشاريع للزراعة، مشاريع لشق قنوات وإقامة سدود ليصير النهر إلى برزخ قناة السويس بعد أن أكد على وجود حفر القناة. فلذلك تزرع على يمين وشمال القناة عدة أميال من الأفدنة. ويقول مؤلف كتاب النيل حياة نهر اسمه أميل لودفيغ أن النيل لا الحرب هو الذى أوجد تلك الواحة الواقعة بين صحراوين وعندها تكون شعب، حيث لا ينزل مطر من السماء. وحيث يكون السكان أكثف من أى مكان آخر من النصف الغربى من الكرة الأرضية، مساحة مصر البالغة مليون كيلو متر مربع، تزيد على مساحة إيطاليا وفرنسا معا. فإن معظم تلك المساحة صحراء، والغالبية العظمى من السكان يعيشون على الشريط الضيق لوادى النيل.
أما الرحالة الإنجليزى بيكر مكتشف منابع النيل «1821ــ 1893» قد تنبأ بأنه سوف يأتى زمن يعجب فيه العالم بقدرة الفلاح فى مصر حيث تتموج سنابل القمح على مد البصر فى هذه الصحارى الرملية وذلك بفضل النهر.
أما أمير الشعراء أحمد شوقى فكتب قصيدة بعنوان النيل منها هذا البيت:
يقول شوقى:
ومن السماء نزلتَ أم فُجرتَ من عُليا الجنان جداولا ترقرق؟
إن كان هؤلاء وغيرهم كثيرون قد أخذ الفلاح والنيل فى مصر عقولهم وقلوبهم فإن الإنسان فى مصر عامة والفلاح بخاصة لهم ارتباط حياة مع النيل؛ لأنه المصدر الرئيسى والوحيد للمياه العذبة فى مصر. الفلاح بزرعه ومواشيه، وطيوره وكل البيئة الحية المحيطة به لا يستطيعون الاستغناء عن النهر حتى العيون الجوفية للمياه العذبة مصدرها النهر.
• • •
فهل وفَى الفلاح فى مصر تجاه صاحبه النهر؟ وإن كان هذا الوفاء للنهر لا يعود بالنفع لذلك الصابر الصامد «النيــل» إنما يعود بالأساس للمصرى بعامة والفلاح بصفة خاصة. قدامى الفلاحين فى مصر والذين عايشوا زمن ما قبل السد العالى يقولون كان للنيل مهابة وتقدير، كان للنهر معنى فى حلنا وترحالنا، كنا ننتظر مجيئه وقت «الدميرة» الفيضان بالخوف والقلق انتظار الراجى لفيضان أكبر من أجل الزرع والضرع، ولذلك كنا نقدر كل قطرة ماء ندعو فى صلاتنا بدوام النهر واستمراره والخوف من غضبه وثورته من شدة فيضانه، أما بعد السد العالى فقد زال القلق، والخوف فقد فعل السد فعلته وكان القوى الضامن من غدر النهر وفيضانه ومن شحه وجفافه. وتبدل القلق والخوف لدينا إلى طمأنينة مشوبة بعدم اكتراث فلم يعد الفلاح يهاب النهر ويخشاه، وأصبح ضعيف التقدير لادخار الماء عظيم الإسراف والتبذير. فلم يغير طريقته المتوارثة من الأجداد فى الزراعة بغمر الأرض بآلاف الكيلومترات من المياه والتى أثبت العلم فشلها، وأنها تفقد الأرض خصوبتها لتصل فى النهاية إلى التطبيل «موت الأرض» تستهلك الزراعة ما قيمته 73% من المياه العذبة و21% للصناعة 6% لمياه الشرب.
ويقول أحد الخبراء الفرنسيين «مدير أبحاث المياه فى فرنسا» أن الحلول لمشاكل نقص المياه يجب أن تكون حلولا محلية فهل يستطيع الفلاح فى مصر تغيير طريقته الفرعونية بغمر الأرض فى الزراعة؟. واستبدالها بنظم الرى الحديثة؟. والتى تقوم الدولة بإجراءات تحفيزية من أجل إقناع الفلاح بجدواها. وإن كان هناك حل بطريقة أسهل وأسرع، وهى تطبيق الزراعة «على مصاطب» وهى طريقة يعلمها كثيرون من خبراء الزراعة وترشد من نسبته الثلث من المياه للزراعة وتزيد من جودة الأرض والمحصول، وفى هذا الشأن تقوم وزارة الزراعة للإرشاد لتلك الطريقة والتى تصلح لكافة المحاصيل. ولكن هذا الإرشاد على استحياء فكان لابد مع شح المياه العذبة التى يعانى منها كثير من دول العالم أن ترتبط تلك الطريقة وهى الزراعة «على مصاطب» بالدعم المقدم للفلاح، وفى النهاية يقول شوقى:
فاحفظ ودائعك التى استودعتها أنت الوفىُ إذ اؤتمنتَ الأصدق
للأرض يوم والسماء قيامــــة وقيامةُ الوادى غداته تُحلـــقُ

عادل سليمان معد برامج بتلفزيون الصعيد
التعليقات