الإسلام في تترستان - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الأربعاء 14 مايو 2025 12:00 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الإسلام في تترستان

نشر فى : الثلاثاء 13 مايو 2025 - 8:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 13 مايو 2025 - 11:08 م

 تناول مقال الأسبوع الماضى عرضًا للكتاب الذى ساهمتُ بنقله للعربية عن اللغة الروسية والذى يهتم بتاريخ الإسلام فى حوض الفولجا. وكنا قد استعرضنا وصول الإسلام إلى أراضى حوض نهر الفولجا منذ القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، وتوقفنا عند بداية الصدام بين إمارة بولجار الإسلامية وإمارة روسيا المسيحية.


 

موجات الصدام الأولى

طيلة القرن العاشر جرت مناوشات بين الإمارتين انتهت فى عام 985م بعقد معاهدة سلام جاء ذكرها فى المصدر التاريخى المعروف باسم «سير السنوات الماضية». وخلال القرنين العاشر والحادى عشر تطورت الأوضاع السلمية لدى بولجار الفولجا، فأخذ التعليم الشرقى ومصادره المعرفية فى الانتشار، وتأسست العديد من المساجد والمدارس الدينية فى المدن وقرى البولجار، وعمل بها علماء ورجال دين كبار.

كان البولجار بعد اعتناقهم الإسلام فى شىء من العزلة. لكن مع ذلك، وكما كتب العالم الموسوعى البيرونى «رغم بعد البولجار عن الدول المركزية للإسلام، فلم تكن تعوزهم معلومات عن الخلافة والخلفاء».

ويتكشف كل يوم جديد بشان عراقة العلاقة مع بلاد سيبيريا والأورال والفولجا. ومن أوضح الدلائل على ذلك وجود لقى أثرية من القرن التاسع، وكان أهمها عملة شهيرة عرفت باسم الدرهم الصمدى. ويحمل هذا الدرهم مسمى «الصمدى»، لأن سورة الإخلاص منقوشة على أحد وجهيه وفيها اسم الله «الصمد». تجاوزت العملة افتتاحية السورة «قل هو» لتكون على النحو التالى: «الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد». ويذهب بعض المفسرين إلى أن سبب تجاوز (قل هو) ليكون المكتوب كأنه كلام بشرى لا قرآن. وفى الإطار الدائرى للعملة جاء النص ليقول: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

من بغداد إلى بولجار 

فى عام 921 ميلادية (309هـ) خرجت من بغداد بعثة دينية سياسية بتكليف من الخليفة العباسى «المقتدر بالله» إلى قلب القارة الآسيوية فى مكان عُرف وقتها باسم «أرض الصقالبة»؛ تلبية لطلب ملكهم فى التعريف بالدين الإسلامى. وقد وقع الاختيار على أحمد بن فضلان لخبرته السياسية والعسكرية فى الأقاليم الآسيوية.

وصلت إلى بلاط السلطان العباسى فى عام 921م رسالة قيصر البولجار «ألموش بن يلطوار» طلبًا لإرسال سفارة إلى شعب البولجار لشرح مبادئ الإسلام، على أن يرسل الخليفة من يبنى لحاكمهم مسجدًا يطل من محرابه على شعبه، وقلعة حصينة لمجابهة الأعداء، فاختاره الخليفة على رأس الرحلة تقديرًا لمكانته وقدرته على الحوار.

ترى الدراسات الغربية أن ما دونه بن فضلان من نتائج تلك السفارة هو فى الحقيقة نقلة نوعية فى فن كتابة الرحلة العربية التى كانت غارقة فى مفاهيم السرد، فنقلتها إلى مستوى التحليل الإثنوغرافى لشعوب وقبائل لم يكن العالم يعرف عنها شيئًا.

فى بداية الرحلة من شهر أبريل عام 921م توجهت قافلة بن فضلان وسفارته لتمر عبر خوارزم ثم أراضى الأوغوز التركية لتعبر نهر الأورال؛ وتمكنت بعد مخاض عسير من ملامسة ضفته الشرقية لتصل إلى ما يعرف اليوم باسم «بلغار» غير بعيد عن العاصمة التترية الحالية «قازان». 

مسار هذه الرحلة الشاق يخالف ما كان متوقعًا من أن تمر سفارة بن فضلان بمحاذاة الساحل الشرقى لبحر الخزر. إذ كانت مملكة الخزر وقتها على غير وفاق مع العباسيين وسيطرت على الأراضى الممتدة من سواحل بحر الخزر تجاه مدينة «كييف» التى كانت وقتها أهم مدينة روسية وستعرف فى كتب التاريخ لاحقا باسم أم المدائن فى روسيا.

انتقلت رحلة بن فضلان عبر فضاءات جغرافية متباينة: من العراق إلى إيران، فأواسط آسيا، فبلاد بلغار الفولجا أو أرض الصقالبة، إلى الأراضى الروسية، فأراضى مملكة الخزر.

ثمة من يضيف إلى ذلك حلقة بين الأراضى الروسية ومملكة الخزر، وصل فيها ابن فضلان إلى شبه جزيرة اسكندنافيا على مشارف القطب الشمالى. ورغم الأهمية السياسية والدبلوماسية والدينية للرحلة يمكن القول إنه كانت هناك بدايات لتعريف البولجار بالإسلام سابقة على وصول بن فضلان إلى بلغار، كرحلات التجار الذين قدموا المبادئ العامة للإسلام، وأهمها تلك القائمة على التوحيد وحسن المعاملة، وقد خط هؤلاء التجار الطريق الطويل بين بغداد وممالك آسيا الوسطى من ناحية وبلاد البلغار والقبائل الروسية من ناحية ثانية.

 

تطوير ذاتى للإسلام فى الفولجا

نتعرف من الكتاب الذى بين أيدينا أنه فى خلال القرن الحادى عشر ألّف العالم الموسوعى البلغارى الشهير "حاج أحمد البلغاري" عدة كتب أهمها: "الشامل" و"المقاصد النافعة" و"الطريقة البلغارية". كما تنتمى أعمال الفيلسوف والمؤرخ حامد بن إدريس البلغارى إلى النصف الأول من القرن الحادى عشر وبداية القرن الثانى عشر. وفى النصف الأول من القرن الثانى عشر وضع يعقوب بن نعمان البلغارى مؤلفه الذى يحمل عنوان "تاريخ بلغاريا". كان يعقوب البلغارى معاصرا لرجل الدين البارز فى مدينة سوفار سليمان بن داود السكسنوفارى، مؤلف كتاب "نور الأضواء - حقيقة الأسرار". وبالمثل، عاش وعمل فى النصف الأول من القرن الرابع عشر القانونى البارز برهان الدين إبراهيم الحنفى، مؤلف كتاب "أصول المناقشات".

فى نهاية القرن الحادى عشر ومطلع القرن الثانى عشر كان حاج البلغارى والأخوان تاج الدين وحسن ابن يونس مشهورين بأعمالهم فى مجال الصيدلة، وتمتعوا بشعبية واسعة بين الناس. اشتهر تاج الدين بكتابيه "أفضل علاج للتسمم" و"إمكانات الأعشاب العلاجية".

قول غالى. قصة يوسف

فى بداية القرن الثالث عشر كُتبت قصيدة "قصة يوسف"، وهى واحدة من أروع أعمال الأدب التركي- التترى للشاعر "قول غالي". وهذه القصيدة المستندة إلى سورة يوسف فى القرآن الكريم تشهد على الإمكانات الشعرية الكبيرة للشعوب التوركية فى منطقة الفولجا.

فى نهاية القرن التاسع تغلغل الإسلام فى الثقافة الروحية للمجتمع، مغيراً تقاليدها التركية ومحاصرا العبادات الوثنية إلى دائرة الخرافات. وساهم ازدهار الدولة ونمو المدن وترسخ ثقافة روحية ومادية موحدة ذات طابع إسلامى على كامل الأراضى فى البلاد فى تشكيل شعب بلغارى له تميز عرقى وسياسة موحدة فى القرون الوسطى، وكان أساسهم الأيديولوجى هو الفكر الإسلامى.

غير أن إمارة البولجار الإسلامبة وإمارة روسيا كييف المسيحية وقعتا سويا تحت سيطرة إمبراطورية المغول التى استعبدت كلا من البولجار والروس، واستمرت لأكثر من قرنين من الزمن قبل أن تتفكك إلى عدة ممالك أصغر كان من بينها مملكة شهيرة فى حوض الفولجا عرفت باسم "القبيلة الذهبية" (1224م – 1483م) وهو ما سنعرض له فى المقال المقبل.

 

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات