سعدت بتلبية دعوة من منظمة تسمى مجلس التفاهم العالمى ـ وهى ترجمة غير دقيقة للاسم بالإنجليزية Interaction Council ـ فى دورتها السابعة والعشرين التى عقدت فى المملكة العربية السعودية بتنظيم من الشيخ عبد العزيز القريشى، الذى درس فى كل من القاهرة وكاليفورنيا وتولى منصب المحافظ السعودى فى صندوق النقد الدولى، ثم محافظ صندوق النقد السعودى إضافة إلى مناصب أخرى فى مجال البنوك والتأمين.
وقد عقد الاجتماع فى مدينة الملك عبدالله الصناعية، وهى مدينة مازالت تحت الإنشاء، ولكن أمكن تحويل بعض الشقق القليلة التى استكمل بناؤها إلى فندق مؤقت. كما أنشئ مركز مؤقت للمؤتمرات استضاف الجلسات. وكان بين المشاركين المستشار الألمانى السابق هيلموت شميدت والرئيس السابق خون فايتسيكر، ورؤساء وزراء سابقين من كندا والسويد وهولندا وماليزيا ونيوزيلندا والنرويج واليابان وكولومبيا وقبرص، ورؤساء جمهورية سابقين من إندونيسيا وإيران وكوريا الجنوبية والأردن وإيطاليا والنمسا وكولومبيا وتنزانيا ونيجيريا ومبعوث اليابان للشرق الأوسط، والسيد الأخضر الإبراهيمى السياسى الجزائرى المعروف الذى تولى منصب وزير الخارجية ثم أصبح المستشار الخاص لسكرتير عام الأمم المتحدة وتولى مهمات دقيقة خاصة فى العراق، بالإضافة إلى عدد من رجال الصحافة والإعلام وخبراء القانون الدولى والدين الإسلامى «من البوسنة» والمسيحى «من سويسرا» وممثلى بعض مراكز الفكر، ودبلوماسى صينى سابق تولى وزارة خارجية بلاده، وعضو بالبرلمان الصينى سبق أن تولى منصب الرئيس التنفيذى لإدارة منطقة هونج كونج الخاصة والكاتب الشهير بالنيويورك تايمز روجر كوين.
وقد أردت تعداد عدد من الشخصيات التى شاركت لأؤكد أهمية التقاء تلك الرءوس المفكرة كل عام فى مدينة مختلفة لتدارس أوضاع العالم السياسية والاقتصادية، وقد ألقى هذا العام المستشار الألمانى السابق هيلموت شميدت بيانا عن أحوال العالم فى بداية اللقاءات، أصبح هو محور المناقشات التى تمخضت كالعادة عن إصدار بيان يمكن الاطلاع عليه بالرجوع إلى الموقع الإلكترونى للمنظمة، ولذلك لن أحاول تلخيص المناقشات وما تمخض عنها ولكن أود التطرق إلى بعض الملاحظات:
1ـ إن الأزمة الاقتصادية احتلت الجزء الأهم من مشاغل الحاضرين الذين اتفق رأيهم على الدور الذى لعبه الجشع فى اشتعالها، بالإضافة إلى أن أنظمة الرقابة والإشراف من جانب السلطات فى الولايات المتحدة كانت غير كافية وغير مؤثرة. وأشار المشاركون إلى أن تأثير الأزمة على دول الجنوب سيكون مدمرا حيث قد يضاف حوالى مائة مليون شخص سوف ينضمون إلى من يعيشون تحت خط الفقر. وقد تؤدى الأزمة إلى إهمال المجتمع الدولى مسئوليته المشتركة إزاء الدول النامية. ولما كان مئات الملايين من البشر مازالوا يعانون من الجوع فإن من أهم الأولويات العمل على تحقيق الأمن الغذائى، وطالب المشاركون بزيادة موارد البنك الدولى وصندوق النقد الدولى مع ضرورة إصلاح هاتين المؤسستين.
2 ـ احتل باراك أوباما وما يرتبط به من آمال الجزء الأكبر من اهتمام المشاركين لما يمثله انتخابه من وضع حد لثمانية أعوام من العمل المنفرد والاتجاه نحو العمل الجماعى والتعاون. وقد أوضح الكثيرون أهمية تشجيع الرئيس الجديد على المضى قدما فى اتجاهاته الإيجابية، وعدم الاعتماد على إمكانية قيامه بالمعجزات بل تمهيد الأرض للاستفادة من تلك الاتجاهات.
3ـ جرى حديث طويل عن الشرق الأوسط، وقد شارك فيه الكثيرون منهم رئيس وزراء الأردن السابق السيد عبدالسلام المجالى، كما شاركت فيه. ولكن للحق فقد كان الاتجاه إيجابيا منذ البداية بالنسبة لضرورة انسحاب إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية مستقلة فى حدود 1967 على أساس المبادرة العربية.
ولعل أهم من استلفت النظر فى الحديث عن مشكلة فلسطين هو رئيس وزراء هولندا السابق «فان آجت» الذى أدان تصرفات إسرائيل وحصارها قطاع غزة بقوة وقد ذكر أنه يخجل من الموقف الأوروبى فى هذا الشأن.
4ـ وتناول المحتجون كذلك موضوعات منع الانتشار النووى، وأكدوا أن الدول النووية الأصلية الخمس خرقت التزاماتها بمقتضى معاهدة منع الانتشار، إذ إنها قامت بتحديث أنظمة أسلحتها بنشر أسلحة نووية جديدة وبتحديث وسائل إيصال تلك الأسلحة، وأشاروا إلى أن الدول النووية فى طريقها إلى سباقين جديدين أولهما تطوير الأسلحة المضادة للصواريخ وعسكرة الفضاء. وطالب الاجتماع بأن تخضع الدول النووية ــ سواء المعلنة أو غير المعلنة كإسرائيل ــ لأنظمة منع الانتشار ولقواعد الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وأكدوا أن على الدول غير النووية مثل أستراليا وكندا والبرازيل واليابان وبولندا وألمانيا وغيرها أن تضغط من أجل الالتزام بمعاهدة منع الانتشار، كما أشاروا لضرورة إبرام معاهدات حول منع البدء باستخدام الأسلحة النووية وعدم عسكرة الفضاء، وإلى ضرورة التصديق العالمى على معاهدة منع التجارب النووية، وكذلك اتخاذ إجراءات بشأن الأسلحة الصغيرة التى هى أهم مصدر للموت والخراب.
5ـ وناقش المجتمعون العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، انطلاقا من مبدأ ضرورة الاستعداد لتقديم التنازلات لإقامة السلام، وطالبوا كلا من الولايات المتحدة وإيران بالتوقف عن الاستفزاز وأن يتحدث كل منهما إلى الطرف الآخر ويستمع إليه. وأشاروا إلى أن مثال العراق يؤكد أنه إذا كان من السهل الدخول فى حرب فإن الانسحاب دون ترك آثار سلبية على المدى القصير والمدى الطويل أصعب بكثير. وأكدوا تأييدهم للتقارب بين إيران والولايات المتحدة، وطالبوا المجتمع الدولى بأن يعبر عن رفضه لتدخل عسكرى فى إيران.
6 ـ وفى أحاديث الصحفى الشهير روجر كوهن المتعاطف مع المواقف المنصفة عادة، ذكر أن العرب مخطئون عندما ينظرون بسلبية إلى حوار أمريكى مع إيران. إذ إن ذلك فى المدى الطويل لمصلحة الجميع، لأن بقاء إيران «خارج الخيمة» يدفعها إلى التأثير سلبا على حماس وحزب الله، وقد سبق فشل محاولات عزل إيران.
وقال أيضا إنه لم يفقد بعد الأمل فى نتنياهو استنادا إلى سابقة بيجين، وأن على الجميع أن يعمل على دفعه إلى الاتجاه الصحيح.
وبعد فهذه أمثلة اخترتها مما ناقشه الاجتماع لساعات طويلة خلال ثلاثة أيام انتهت بإصدار إعلان تناول كل المشكلات المهمة التى يواجهها العالم ووسائل مواجهتها ومنها مشكلات الطاقة والبيئة. وقد نقلت عن بعض الشخصيات مواقف حاولت أن أكون فى النقل أقرب إلى الدقة ولكنى فى النهاية أتحمل وحدى مسئولية ما نقلت. ومع ذلك فليس من شك فى أن هذه المواقف الصادرة عن شخصيات كانت على قمة السياسة ومازالت على قمة الفكر لها صداها خاصة فى هذه المرحلة التى فتح انتخاب أوباما بابا للأمل فى إمكانية انتهاز فرصة استعداد القوة الأعظم للتجديد والإصلاح لمحاولة معالجة الكثير من المشكلات التى تعرض مستقبل الإنسانية لأخطار يصعب تجنبها دون الاستماع إلى صوت العقل الذى صدر من مدينة الملك عبدالله الصناعية، المرتبطة بجامعة تكنولوجية على أعلى مستوى يتم تشييدها وستفتح أبوابها فى شهر سبتمبر القادم.
وفى النهاية فإنى استخلص نتيجة أن هناك الكثيرين فى العالم المتقدم يتفهمون مشكلاتنا فى مجالات كثيرة ويتعاطفون معها، وأن علينا على مختلف المستويات أن نتواصل ونتحاور معهم حتى يكونوا دعما لمواقف تدعو إلى مزيد من العدل والحق والتقدم نحو بناء عالم أفضل من جميع النواحى، خاصة أن أصواتهم مازال لها صدى وتأثير لأنهم ليسوا فقط «سابقين» ولكنهم بقوا عمالقة وعظماء، وقد درجنا للأسف على تجاهل تلك الشخصيات لأن بعضنا للأسف لا يتعامل إلا مع «المناصب».