نعيش لنأكل أو ربما لنتجمل! - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 5 مايو 2025 2:08 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

نعيش لنأكل أو ربما لنتجمل!

نشر فى : الأحد 4 مايو 2025 - 6:50 م | آخر تحديث : الأحد 4 مايو 2025 - 6:50 م

تحلقوا حول تلك المائدة الدسمة، كل يمسك هاتفه النقال ربما لمتابعة «فاشونيستا» أو «انفلونسر»، أو ربما فقط لتصوير تلك المائدة ووضعها على الانستجرام أو بعض مواقع التواصل الاجتماعى الأخرى. يفيض الطعام فوق الموائد حتى يتحول إلى مواد ربما للمشاركة أو «التفاخر» أو فقط تعبير آخر من تعابير الملل الدائم لدى بعض الشعوب التى أدمنت ذاك المرض حتى تصورت أنه هو الواقع الأجمل أو الأكثر «تحضرا» أو هو النموذج الذى يحتذى به.
• • •
آخرون ينتقلون من مكان لآخر، بل يعبرون البحار والمحيطات وأينما يحطون يكون المشوار الأول هو لذاك المطعم أو المقهى لمزيد من الطعام الذى تزدحم به الموائد حتى تلفظ الكثير منه فيسقط هنا أو يتبقى كثير منه عندما تنتهى الوليمة فيجد طريقه إلى سلال المهملات!
• • •
يسافر البعض متحملا تكاليف متنوعة جسدية ومالية فقط ليزور ذاك المطعم أو المقهى ويسجل حضورا كما الآخرين، ويستطيع وبكل ثقة أن يجيب عند سؤاله «هل زرت…؟» فتكون إجابته «طبعا طبعا». لا تسألوهم عن آخر الأدوية التى اكتشفها العلماء فى ذاك البلد أو أى اختراع أو اكتشاف آخر مفيد للبشرية. ولا تتعبوا أنفسكم طبعا بتوجيه دفة الحديث إلى الطبيعة هناك أو الثروات الطبيعية فى ذاك البلد التى هى تتلون مع الفصول فتتحول الشوارع إلى لوحات فنية حسب الفصول الأربعة التى تغنى بها كثير من الشعراء وربما قصيدة «الفصول الأربعة» لجبران خليل جبران - هى الأكثر تعبيرا فى وصف جمال تلاوين الشجر وأزهاره وثمراته. هذا لأننا قد عرفنا وعلى مر السنين أنهم، أى الباحثين عن الموائد والطعام، لا رغبة لهم فى الثقافات الأخرى غير ذلك ولا حتى فهم أن المطبخ ثقافة وحضارة أيضا.
• • •
تمتلئ مكبات النفايات لإعادة تدوير آلاف الأطنان من الطعام المتبقى وهناك ليس بعيدا صراخ لطفل يبحث عن كسرة خبز تحت أنقاض خيمة. وهو ليس وحده، بل يجتمع ما يعرفون أنفسهم بأنهم نشطاء من أجل فلسطين فى مفهوم مخالف للنشطاء عندنا! ليعلنوا أنه فى غزة من لا يموت بالقذيفة والرصاصة والشظية يموت جوعا، ويجمعون ما استطاعوا من طعام وعدة ويرحلون فى قوارب تقترب من شواطئ غزة ليعلنوا لسكان غزة ولكل العالم أنهم ليسوا وحدهم، بل هناك فى رومانيا وبريطانيا وفرنسا والمدن البعيدة كثيرون يشعرون بجوعهم حتى حرموا على أنفسهم الكثير ووقفوا فى كثير من السوبر ماركت ليعلنوا أن هذه بضائع معجونة بلحم وجلد أطفال فلسطين أو ذاك الشراب «المنعش» هو أيضا مجرد دم فلسطينى.
• • •
على مر التاريخ كان التجويع أو الجوع سلاح حرب استخدم فى الحرب العالمية الأولى ثم أبدع فيه النازيون فحاصروا مدنا كثيرة وأشهرها حصار «لينينجراد» (1941-1944) حتى قتل الجوع الملايين. بعدها وقف العالم ليحاكم المجرمين فى محكمة نورمبيرج. حينها لم تكن هناك كاميرات تنقل صور البشر الذين تحولوا إلى هياكل عظمية ولم يكن هناك صحفيون شجعان مستمرين فى نقل الصورة كما هو حادث الآن فى غزة، ولم يكن مؤثرون ومواطنون غزاويون عاديون جدا استمروا فى فعل مقاومة الموت بنشر صور الحياة أو ما تبقى منها، فاضحين لكل جرائم النازيين الجدد وحرب الإبادة المستمرة عليهم وعلى كل جيران ذاك الكيان المزروع عنوة فى قلب الوطن الواسع.
• • •
حينها أيضا، أى أثناء مجاعات وحصارات الحرب العالمية وغيرها من حروب، لم يكن هناك بشر يتقنون فن نشر صور لأصناف من الطعام المرصوص فوق موائد فقط لتصويرها ونشرها، ولم يكن هناك فى أوروبا كلها من يتصور أن شبعه غير موجع فى مقابل كل ذاك الجوع والوجع القريب منه حتى الوريد. لم يكن أهل غزة يصرخون وأقرباؤهم هنا وهناك مستمرون فى عقد المهرجانات والمسابقات شديدة البذخ ولم يكن المواطن البسيط الذى يردد دوما «ما باليد حيلة» قد تحول إلى مراقب للإبادة والحرب ملتزم الصمت لأن صوته أو رسالته القصيرة هنا أو هناك أو إعادة نشر صورة يزن الذى قالت أمه «طفلى يذبل من الجوع»، قد تؤدى إلى فقدانه لوظيفته أو حتى معاقبته بالسجن وذاك ليس فى سجون تلك المسماة دولا «مستقلة!» بل وأيضا فى الدول الأكثر تبجحا باحترامها لحقوق الإنسان والديمقراطيات العريقة.
• • •
بعضنا يعيش ليأكل أو يتجمل بموائد فى مطاعم فاخرة، وآخرون قريبون جدا يتضورون جوعا وكأنهم أو كأننا قد أصبنا بالخدر فى الضمير والإنسانية وهو أكثر أنواع الخدر قتلا.

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات