مناقشات اقتصادية حية - ريم عبد الحليم - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مناقشات اقتصادية حية

نشر فى : الثلاثاء 19 مايو 2015 - 9:30 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 19 مايو 2015 - 9:30 ص

إن قدرا لا بأس به من تعقد القضايا الاقتصادية يتعلق بطبيعة الطرح التى يفرضها علينا النموذج الاقتصادى المتبع بتشابكاته ومصالحه، حيث يتم حسر كثير من المشكلات الاقتصادية والسياسية فى إطار أسئلة محدودة، تفضى لثنائيات قاصرة عن تقديم حلول حقيقية، وتسلخ المكونات الجزئية للمشكلات الاقتصادية المعقدة عن جذورها، فى حين أن القضايا التى تعمل على حلها مركبة.

بدا هذا التسطيح مهيمنا فى مناسبات عدة فى الأسابيع الأخيرة، المناسبة الأولى كانت صدور قانون الخدمة المدنية الجديد رقم 18 لسنة 2015، فقد شغلنى حين تناولته بالدراسة الفلسفة التى قام عليها القانون، أكثر من مشكلاته القانونية التفصيلية، فبعد انتظار عقود لفك طلاسم التعقيدات الإدارية فى جهاز الدولة البيروقراطى ــ الذى نتفق جميعا على أنه أضحى مهترئا ومؤذيا لدرجة يصعب استيعابهاــ جاء القانون ليعكس بقاء المجتمع أسيرا لرؤيتين حول دور الدولة: الأولى تنظر للدولة على أنها الراعى والمشغل الذى عليه أن يحل محل القطاع الخاص فى توفير فرص العمل وكأنها مظلة اجتماعية للتأمين ضد البطالة، والثانى لا يرى سوى الأزمة المحاسبية التى يسببها بند الأجور فى موازنة الدولة وضرورة تخفيضه.

فجاء القانون وتصريحات المسئولين المصاحبة له لتكشف عن قلق الدولة بالفعل من بند الأجور إلى حد بعيد، وعلى الرغم مما حمله من محاولة لتحسين جوانب إدارية تتعلق بالتعيينات إلا أنها بقيت بمعزل كامل عن المواطن ورؤيته واحتياجاته. والأهم أن القانون لم يوضح أية معايير واضحة ترتبط بالأداء للتعيين والترقيات والندب.

•••

القضية المرتبطة بشدة بالنظر للجهاز البيروقراطى للدولة هى قضية الحد الأقصى للأجور الحكومية بتعريفها الواسع، فيميل البعض لضرورة فرضه كأداة لتحقيق العدالة ويميل البعض الآخر للنظر فقط على تأثيراته السلبية على كفاءة عمل الجهاز البيروقراطى وقدرته على اجتذاب الكفاءات.

إن تناول قضية الجهاز البيروقراطى للدولة تناولا سويا يتطلب بالأساس البحث فى كيفية صياغة جهاز إدارى فعال وعادل من وجهة نظر المستفيد الرئيس منه وهو المواطن.

فالمشكلات محل النقاش تخرج عن كونها مشكلات مالية أو صراع بين الحكومة والقطاع الخاص على التشغيل لتشق طريقا مختلفا للطرح، يتمثل هذا الطريق فى تشكيل عقد اجتماعى جديد حى وفعال viable. حينئذ، سوف يتسنى لنا جميعا تقدير مفهوم كفاءة الجهاز الحكومى ومقارنة ما يحمله للمجتمع من أعباء فى مقابل ما يقدمه من خدمات.

مثال على ذلك: إذا انحسر التعريف والدور الفعلى للكفاءة الإدارية فى القطاع المصرفى الحكومى بمدى قدرة إدارة البنوك على الاستفادة من فروق سعر الفائدة على الأوراق الحكومية وتحقيق أرباح، فهذه مشكلة أكبر كثيرا من المطالبة بالاستثناء من الحد الأقصى للأجر، فقبل الدفاع عن رواتب إدارة القطاع وتناول مشكلات ضغطهم كجماعات مصالح للحصول على استثناء البنوك الحكومية من الحد الأقصى؛ علينا عمل مراجعة لطبيعة دور القطاع المصرفى الحكومى من الأساس، ودون هذه المراجعة يصبح أى نقاش حول الاستثناء من الحد الأقصى والخوف على هروب الكفاءات أو عدمه قاصر وغير مفض لحل منطقى.

•••

تنطبق نفس الإشكاليات على جميع الهيئات المستثناة وعلى الهيئات الطالبة للاستثناء. فلنطرح السؤال على الجميع «كيف نعرف الكفاءة فى إطار نموذج اقتصادى وسياسى واجتماعى يحل الإشكاليات الموجودة ولا يقوم على الاستفادة منها؟!».

المناسبة الثانية هى اتجاه وزارة المالية نحو تخفيض الحد الأقصى للضريبة على الدخل، وما صاحبه من حسر النقاش فى قضية ضريبة الدخل فى سعر الضريبة.

فسعر الضريبة المرتفع يفضى عند جانب من الاقتصاديين إلى الركود والتهرب الضريبى وسعر الضريبة المنخفض يعنى ميزة تنافسية أعلى للدولة من وجهة نظر المستثمر وتكلفة استثمار منخفضة، فى حين يرى البعض الآخر أن سعر الضريبة الأعلى يعنى عائدا أكبر من الاستثمار لخزينة الدولة ومن ثم زيادة فى قدرتها على القيام بالخدمات العامة كبديل عن التعجل فى الخصخصة أو تفاقم فى المديونية.

الواقع هو أن الحالة المصرية تشير إلى أن نسبة الضرائب المحصلة للناتج لم تزد مع تخفيض سعر الضريبة وتوحيده بالقانون 91 لسنة 2005. ولعل التقرير الأخير الذى أعده الزميل أسامة دياب بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية يكشف عن رؤية جديدة لقضية الضرائب على الدخل فى مصر لتربطها لحد بعيد بقضايا التهرب الضريبى والملاذات الضريبية والثغرات التى تمتلئ بها القوانين، بما يحتم علينا الانتقال فى تناول موضوع الضرائب على الدخل إلى تناول واضح دون مواربة لمنظومة المصالح والتشابكات مع السلطة والقدرة الفعلية على التحصيل، فيما يعرف بالسعر الضريبى الفعال effective tax rate، كمسار ضرورى مكمل وليس بديلا لمناقشة سعر الضريبة وشرائحها لتكون أكثر عدالة، وتعكس الدور الاجتماعى للضريبة وليس دورها التمويلى.

معنى هذا الانتقال هو إعادة النظر فى حقيقة من يتحمل العبء الضريبى فى مصر، وأسباب التوسع فى الضرائب غير المباشرة التى تعنى المزيد من التضخم وتدور بنا فى حلقة اقتصادية مفرغة من توزيع غير عادل للضرائب والثروات بالتبعية.

المناسبات والقضايا عديدة، فجذور قضية الفقر تكمن فى عدم العدالة ومن ثم فلا يمكن تقبل انحسار طرحها فى المقابلة بين توفير شبكات أمان اجتماعى والدعم السلعى، وجذور قضية الشركات الصغيرة تكمن فى تشوهات الأسواق ومن ثم لا يمكن تصور انحسار طرحها فى مناقشة أدوات التمويل بين القطاع المصرفى والأداوت والجهات خارجه، وجذور قضية دعم الطاقة تمكن فى قنوات التوزيع والفساد بها بدءا بعلاقة الهيئة العامة للبترول والشركات المحلية والأجنبية بالخزانة العامة للدولة وصولا إلى المستهلك وليست قضية تسعير محض، وجذور قضية تفاقم العشوائيات يبدأ من الريف وعدالة توزيع الموارد ومركزية الدولة وقطاع الزراعة وطبيعة إدارة الأراضى وتخصيصها وليست قضية نقل العشوائية أم توفير خدمات بها لمعالجة البنيان الحضارى.

•••

يبدو أن النموذج الاقتصادى الذى نحياه يحتاج لمراجعة ليس فى الحلول المطروحة ولكن بالأساس فى الأسئلة والقضايا التى تنبع منها هذه الحلول، فلابد من فتح طريق ثالث للنقاش وطرق أبواب جديدة أكثر جذرية... فالقضية ليست «أريد ولكن أين الموارد (أجيب منين)»، ولكنها قضية ماذا نريد من الأساس، وعندها سوف تتوجه عقولنا بالضرورة نحو التساؤل التالى فى قصتنا وهو «أين ذهبت الموارد؟»

ريم عبد الحليم أستاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة باحثة متخصصة في شؤون الفقر
التعليقات