الوطنية البالية.. والمواطن العالمي بنكهة الفانيليا - نادين السيد - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 11:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الوطنية البالية.. والمواطن العالمي بنكهة الفانيليا

نشر فى : الأحد 20 أغسطس 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : الإثنين 21 أغسطس 2023 - 1:45 ص
كان عم جدتى لوالدى المفكر المؤثر وأستاذ الجيل الذى نادى بتعزيز الهوية المصرية وتوحيد الشعب المصرى على مبدأ أن مصر للمصريين وأن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية. لذا، فقد نشأت على هذا الإرث وعلى الفخر بمصريتى وهويتى، بعيدا عن الهوية الدينية أو العربية. فورثت جينات جدى الأكبر أحمد لطفى السيد واعتزازه ببلاده وإرثه الفكرى والثقافى والأيديولوجى.

لم يكن والدى قط يغنى لى أغانى الأطفال وأنا صغيرة، بل كان يردد لى دائما الأغانى الوطنية القديمة، مثل «نشيد القسم» وغيرها الكثير من الأغانى التى تعزز الشعور بالوطنية والفخر بالهوية المصرية بكل ثرائها وتاريخها وتعقيداتها. تربيت على حب من أنا وحب مصريتى بكل نكباتها وإنجازاتها ومشاكلها وثوراتها واحتلالاتها وآثارها وشواطئها الخلابة ومبانيها الأثرية وعشوائياتها وعدم نظافة شوارعها.

أحببتها كما هى حبا غير مشروط وحبا مدركا تماما مشاكلها كلها، وتمنيت العمل على تطويرها ورفضت فرص الهجرة العديدة التى تسنت لى، وبالرغم من دراستى بالخارج وحبى للسفر، لم أشعر قط بإحساس الوطن والانتماء وشعرت بأننى ورقة فى مهب الريح بلا جذر. هنا أشعر بالوطن والجذور، بالنجاحات والفخر المشترك، بحب شعبها وطيبته وخفة دمه وجدعنته وصموده بالرغم من كل الظروف. أحببت حبنا للحياة ورغبتنا فيها بالرغم من جميع الصعوبات، أحببت الأسرة البسيطة التى تناست الزحمة والضجيج والتلوث ووقفت تأكل كوز الذرة المشوى فى حر الصيف، وأحببت السيدة القوية التى تحدت الشارع والناس والظروف والتحرش ووقفت طوال النهار بعربة خضروات لإعالة أسرتها. فشعرت بالمعاناة المشتركة مع أهل بلادى والتروما المشتركة مما مررنا به عبر العقود الأخيرة من ظروف أمنية واقتصادية وتحرش فى الشوارع وزحمة وحتى انقطاع التيار الكهربائى والسخرية من تخفيف الأحمال. فكلنا نعانى وكلنا نسخر فى أحيان كما نحتفل كلنا ونفخر كلنا فى أحيان أخرى.

فبلادى كلها تاريخ وإرث ثقافى وحضارى دسم يدعو للفخر والاعتزاز وعادات وتقاليد تجمع بيننا من أول النيش المقدس غير القابل للمس فى بيوتنا جميعا، مرورا بالفسيخ والبيض الملون يوم شم النسيم، فطار الفول والطعمية فى صباح يوم الجمعة ووصولا إلى كرم الضيافة وقواعد إكرام الضيف المبالغ بها فى جميع بيوت المصريين. ذاك الإرث والعادات والتاريخ نشترك فيه جميعا بمختلف طبقاتنا ومعتقداتنا وألوان بشرتنا، ويشكل هوية مشتركة دسمة وغنية ولا تمت بصلة لعرق أو دين. كما تشترك المشاكل والتروما المجتمعية والنكبات فى تشكيل تلك الهوية وصقلها، فهى مشاكلنا نحن وتروماتنا نحن ووطننا نحن. فبالرغم من كل شىء، تربيت على حبه والتضحية من أجله وإعلاء شأنه والعمل على تعديل أوضاعه وحل مشاكله على قدر المستطاع.


• • •


تصورت أن هذا الإحساس بالانتماء والوطنية طبيعى ومطلوب وواجب علينا تمريره إلى الأجيال القادمة كما قام والدى بتوريثه لى ووالده بدوره. ولكن على ما يبدو قد تغير مفهوم الوطنية كثيرا عن زمن جدى الأكبر.

كان لطفى السيد ينادى بمصر للمصريين فى زمن كانت تعانى فيه البلاد من سلسلة احتلالات، بدءا من الاحتلال العثمانى ثم البريطانى. وكان آنذاك المناداة بتعزيز هوية مصرية مشتركة بعيدة عن الدين والعرق والافتخار بمصريتنا فى وجه احتلال يقمع المصريين ويعطيهم الشعور بالدونية أمرا فى غاية الأهمية، لتشكيل جيل مرفوع الرأس وممدود الجذر وواثق فى أصله ونفسه وهويته. ربما لم تعد مصر محتلة وربما اختلف الزمن والظروف والمعتقدات، ولكن ما لم يختلف هو أهمية إرساء مبادئ الوطنية والتعزيز والافتخار بالهوية المصرية. سبقنا جدى الأكبر بمائة عام وتغيرت الأوضاع كثيرا منذ ذلك الحين، ولكن مشكلة الهوية وعقدة الخواجة لا تزال قائمة فى ظل احتلال عسكرى تبدل باحتلال ثقافى متوحش وأخطر لصعوبة تحديده وملاحظته، فهو يتسلل ببطء وحنكة ومسايسة تجعله صعب الملكة وبالتالى صعب المحاربة، عكس ما يحدث مع العدو المحتل الصريح فى زمن لطفى السيد.

فتبدل مفهوم الهوية الوطنية بمبادئ المواطن العالمى غير المنتمى لوطن معين، وارتبطت مفاهيم الوطنية بالفاشية المتأصلة فى جذور إمبريالية احتلالية لا تمت بصلة لمفاهيم الوطنية المصرية، التى تأصلت فى رغبة مشتركة لمكافحة ذلك الاحتلال ذاته الذى لطخ مبادئ الوطنية. جاءت مبادئ المواطن العالمى ردا على فاشية سادت وقت الإمبراطورية البريطانية ومن قبلها العديد من القوى المحتلة، التى استخدمت مفهوم الوطنية لسلب حقوق أوطان أخرى لمصلحتها والاعتقاد بأنهم أفضل وأعلى من باقى الشعوب والأوطان. ثم تفشى ذلك الإحساس بالأعلوية مع حملات الرئيس السابق دونالد ترامب الانتخابية التى امتازت بالفاشية الفكرية وعدم الاكتراث بأى وطن أو شعب آخر وتجردت من مفاهيم الإنسانية. وهنا يجب أن نفرق بين الـ «nationalism» والـ «patriotism» فالأولى مرتبطة بالفاشية والثانية تعنى فقط حب الوطن والاعتزاز به، وترجمة الكلمتين باللغة العربية هى الوطنية. ولكن شتان الفرق بين مبدأ الوطنية المصرية ومبادئ الوطنية الإمبريالية التى يتحدث الغرب عنها وتنبذها وسائل التواصل الاجتماعى وأعطته وصمة عار وجعلته موضة قديمة لا تعجب جيل العولمة. ولكن ما لا يفهمه جيل المواطن العالمى أن هذه الوطنية المنبوذة هى ذاتها الوطنية التى أدت إلى حركة عكسية لمحاربيها وكونت الوطنية المصرية، لا لاحتلال أوطان الآخر ولا لإهدار حقوق الآخرين والاعتلاء عليهم، ولكن ببساطة للاعتزاز والفخر بهويتنا وأوطاننا ومحاربة الانبهار بالمحتل أو بالغرب وأفكارهم. فذلك لا يعنى أبدا الرجعية أو عدم مواكبة العصر، حتى التمسك بأفكار رجعية، فوالد الوطنية المصرية الحديثة أحمد لطفى السيد كان رائد الفكر الليبرالى فى مصر وكان نصيرا للفكر التقدمى المطلع على الحضارات والثقافات العالمية. فالتمسك بهويتنا لا يعنى أبدا عدم رؤية مشاكلها والاعتراف بها أو عدم الاطلاع والتعلم من الثقافات الأخرى.

• • •

كونى فخورة بنفسى لا يعنى أننى لا أرى مجالا للتحسن أو التطور، ولكنه يعنى أننى ذات جذور عميقة وممتدة وأعرف تماما من أنا ومن أين جئت ولست عرضة لمهب الريح يأخذنى حيث يشاء وأنبهر بكل ما هو لامع وجديد. إحساسى بالفخر والولاء لوطنى لا يعنى الجور على الآخرين، ولكن يعنى الإدراك بأهمية بلادى عبر التاريخ والتمسك بإرثى الثقافى والتاريخى والحضارى من تقاليد وطرق حياة تميزنا وتعطينا نكهة أصيلة مميزة غير نكهة الفانيليا الذى يريد المواطن العالمى التطبع بها. شعورى بالوطنية متأصل بالإعجاب بشعب صمد على مر عصور وحروب وثورات وكبوات لا نهاية لها وظل فخورا بهويته وطباعه وعاداته ومناسباته وأكلاته ومتوطنا فى حبى لوشوش تعتليها تجاعيد تكونت على مر الزمن والصعاب، ورقت وتجملت وسط بسمات دافئة وأصيلة تعكس دفء وإرث وطن قديم وعريق ومعقد التركيبة والهوية.
نادين السيد أستاذ مساعد بقسم الإعلام في الجامعة الأمريكية
التعليقات