التخطيط وقضية البيانات والمعلومات - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 2:13 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التخطيط وقضية البيانات والمعلومات

نشر فى : الإثنين 20 أكتوبر 2014 - 8:15 ص | آخر تحديث : الإثنين 20 أكتوبر 2014 - 8:43 ص

تحدثنا فى المقال السابق عن الظروف التى انطلقت فيها عملية التخطيط القومى فى ستينيات القرن الماضى. وبما أن التخطيط يعنى اتخاذ مجموعة من القرارات المتعددة الجوانب والمترابطة معا فى آن واحد، فإنه يتطلب إعداد مجموعة كبيرة من البيانات والمعلومات عن الماضى والحاضر، واستخدام أساليب علمية متناهية الدقة لبناء إطار متسق عن فترات مستقبلة، ورسم مسار لحركته عبر الزمن وصولا إلى تصوير متكامل للمجتمع فى التاريخ المحدد للأجل الذى تغطيه الخطة. وبينما يعتبر كل مركز من مراكز اتخاذ القرار على مختلف المستويات أن الأمور المحيطة بالموضوع الذى يعنيه من قبيل المعطيات ويحاول أن يبنى قراره وفقا للهدف الذى ينشده، فإن التخطيط على المستوى القومى لا يستقيم إلا إذا تعامل مع معطيات كل من القرارات الجزئية كمتغيرات تتجاوب معها قرارات المراكز المعنية بتلك المعطيات.

ولتوضيح ذلك نتأمل ما تقوم عليه نظرية السوق التى تفترض أن الطلب على سلعة بعينها يتوقف على الدخل الكلى الذى ينفق منه المستهلكون، ويتحدد وفقا له السعر الذى يساوى العرض والطلب. ولا تأخذ هذه العلاقة فى الاعتبار أن الدخل الكلى يتوقف على دخول المساهمين فى إنتاجها، وقد يؤدى توازن عرضها وطلبها إلى اختلاف الدخل عما افترضه منتجوها، فتتولى السوق تصحيح قرارات المنتجين والمستهلكين إلى أن تستقر أوضاعها، وهو ما يتجاهل أن هذه التغيرات تؤثر على أسواق سلع أخرى، فتتوالى التغيرات وردود الفعل، وخلال ذلك قد يضطر منتجون إلى الاستغناء عن بعض العمال، أو يطلبون المزيد فلا يجدون. وكأن توازن أسواق السلع يتم على حساب اختلال سوق العمل ومعدل الأجر. ويدعى أنصار حرية السوق أنها تحقق كفاءة فى استخدام الموارد. وعجبا لكفاءة تعامل الإنسان كسلعة، ولا تعنى بتزويد المتعطلين بدخل ينفقونه للبقاء على قيد الحياة.

ومن هنا تأتى أهمية توفير الأدوات العلمية للتنسيق المسبق لكافة الأسواق معا عن طريق تخطيط شامل يتم على المستوى المركزى. يذكر فى هذا الصدد أن الدول التى طبقت الاشتراكية وفق الإسلوب الماركسى اللينينى أطلق عليها أنها دول ذات اقتصاد مخطط مركزيا. ووجه المغالطة فى هذه التسمية أن تلك الدول كانت تدار مركزيا بخطط سنوية تنسقها فيما بينها لضمان تأمين احتياجاتها من الواردات وما يلزم لها من أسواق لما يوجه للتصدير، بينما تعتمد على خطط طويلة الأجل لأغراض التنمية. أما فى الدول النامية كمصر فإن على تخطيط التنمية أن يعطى توجيهات لمختلف الوحدات والمؤسسات بموجب قاعدة «مركزية التخطيط ولامركزية التنفيذ»، فالمخطط المركزى لا يدير مركزيا. ويقترح البعض أن يكون التخطيط تأشيريا، بمعنى أن يوفر قاعدة بيانات مستقبلية يسترشد بها أرباب الأعمال لتحقيق أكبر قدر من التوافق فيما بينها، وتوفير متطلبات تحقيق الغايات الكلية للمجتمع. إلا أنه حتى لو فضلت الدول نظام حرية السوق، فإنه يجب إعطاء توجيهات لمؤسسات الدولة تصوغ بموجبها التشريعات والسياسات وتتخذ الإجراءات التى تدفع القرارات الفردية نحو تحقيق الغايات التى يتبناها المجتمع على المستوى القومى.

وكانت مصر من أوائل الدول التى شهدت اهتماما بعمليات التعداد والإحصاء منذ أواخر القرن التاسع عشر، ثم تعددت فيها الإحصاءات التى تهم دولة مركزية، والتى تعنى المنشغلين بالأنشطة الزراعية وبخاصة القطن. وأنشئت مصلحة الإحصاء والتعداد. وبعد انتهاء صندوق الدين تزايد الاهتمام بالإحصاءات المتعلقة بالسياسات المالية والضريبية، وبإعداد ونشر أرقام قياسية لأسعار الجملة والتجزئة. وساهم البنك الأهلى فى إعداد إحصاءات عن الأمور النقدية ومكونات ميزان المدفوعات. وساهم بعض الدارسين فى إعداد تقديرات للدخل القومى بأساليب مختلفة ولسنوات متفرقة، اقتضت منى جهدا لاستخلاص تقديرات لسنوات متوالية للاعتماد عليها فى تقدير العوامل المحددة لتطور الاقتصاد الوطنى.

لكن المشكلة التى أقلقت المعنيين كانت تضارب تقديرات الجهات المختلفة فى نواحٍ عديدة، ومنها الإحصاءات الزراعية التى تباينت بين مصلحة الإحصاء ووزارة الزراعة. ويذكر أن العرف جرى على التمييز بين تقديرات المساحات المزروعة، أى التى تزرع ولو لفترة من السنة وقدرت بحوالى 6 ملايين فدان، والمساحة الحقلية التى يتكرر فيها حساب الفدان إذا زرع بأكثر من محصول فى أجزاء من السنة ووصلت حوالى 11 مليون فدان. ولكننى فى دراسة أجريتها عن تطور الحاصلات الحقلية على مدى 40 سنة (14ــ 1954) اعتمدت مصطلح فدان/ سنة (مشابه لمصطلح رجل/ ساعة فى قياس العمل)، مما أدى إلى استنتاجات تخالف ما كان متداولا حول تقدم السياسة الزراعية. والأهم من ذلك أنه عند إجراء قياس لفاعلية عناصر الإنتاج خلال تلك الفترة الطويلة تبين أن أكثر العناصر فاعلية كان هو عنصر العمل، وأن التقديرات التى تأخذ بها أجهزة التخطيط للأجر كانت تتفق مع ما تقضى به النظرية. وهدم هذا أقوالا شائعة بأن العمل الزراعى يعانى من بطالة لفترات من السنة واعتباره نوعا من «البطالة المقنعة»، مما يعنى أن أجره الاقتصادى يجب أن يقارب الصفر، الأمر الذى أعطى للإقطاع حقا فى التهام غالبية الدخل الزراعى، واعتبار ما يناله الفلاح صدقة توفر له حد الكفاف. غير أن المشكلة الأكبر التى صادفتها عندما حاولت فى الفترة 57 ــ 1960 إعداد نماذج تخطيطية تربط بين مختلف جوانب الاقتصاد (وهى المهمة التى انتدبت لها فى لجنة التخطيط إضافة لعملى بالتدريس الجامعى) هى وجود اختلال فى البيانات أفضى إلى نتائج غير مقبولة علميا فكان لابد من مراجعتها.

وأدى الاهتمام بالتصنيع إلى إجراء إحصاء صناعى فى 1954 ساهم فى التعرف على واقع التشابك الإنتاجى ومهد لتطويره فيما بعد. ولكى يمكن تقدير التطور فى الاستهلاك العائلى أُجريت دراسة بالعينة على ميزانية الأسرة، أمكن فيما بعد استخلاص تقديرات منها للتغيرات فى الطلب على السلع والخدمات المختلفة بما يتمشى مع نمو الدخل والتغير فى توزيعه. غير أن أهم المعلومات التى كانت تتطلبها عملية التنمية كانت تلك المتعلقة بالتفاصيل الفنية للمشروعات التى يجرى إنشاؤها سواء لأغراض مجلس الإنتاج أو لبرنامج السنوات الخمس للتصنيع أو للخطة الخمسية ذاتها. وقد خصصت نسبة مئوية من ميزانية المجلس لأغراض البحوث غطت عددا كبيرا من القطاعات وأعدت مشروعا لكهربة القطر المصرى على مدى عشرين عاما. بالمثل كلف عزيز صدقى عددا من الخبراء بإجراء دراسات عديدة تم الاختيار منها لمشروعات السنوات الخمس، كما لعبت هيئة التصنيع دورا هاما فى دفع عجلة التصنيع. وفى 1957 ألحقت مصلحة الإحصاء والتعداد بوزير الدولة للتخطيط وأنشئت اللجنة المركزية للإحصاء كهيئة فنية تابعة للجنة التخطيط القومى. وعقب إنشاء مكاتب لتخطيط فى الوزارات فى أوائل 1959 شكلت 7 لجان رئيسية تفرع عنها 54 لجنة فرعية لدراسة تطور فروع النشاط الاقتصادى والاتجاهات التى يمكن تبنيها فى الخطة، فاكتمل بذلك إشراك أهل الخبرة (وليس أهل الثقة كما يتجنى البعض) فى إعداد الأسس المتينة لإعداد أول خطة قومية فى تاريخ القطر المصرى على أسس علمية.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات