مقعد على الممر - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 11:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مقعد على الممر

نشر فى : الثلاثاء 21 مايو 2019 - 10:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 21 مايو 2019 - 10:50 م

أعتبر نفسى واحدا من ركاب الطائرات المحظوظين، إذ لم يحدث إلا فى مرات نادرة أن كان من نصيبى جار جعل رحلة الساعات تجربة جحيم حسب وصف أصدقاء تعذبوا مثل عذابى. كثيرا ما اعتقدت أن رحلة الطائرة فرصة مثالية ليتعارف الناس أو للانفراد بكتاب أو أفكار. حدث هذا قبل أن يخترعوا لكل مقعد شاشة تعرض أشرطة من كل نوع ولترضى أذواق هواة المشاهدة وكذلك هواة الموسيقى والغناء. أحيانا أحاول أن أتصور كيف كنا نتحمل رحلة سفر تدوم لأكثر من تسع ساعات متصلة تنقلنا من مطار فى مدينة خليجية أو من بيروت إلى مطار بكين فى جمهورية الصين الشعبية، نتسلى بالنوم والقراءة ونتفادى إزعاج جيران المقاعد المجاورة. تمر علينا ساعات لا ننطق فيها بحرف إلا إذا كان من حسن حظنا وجود راكب فى المقعد المجاور مستعد لتخفيف أعباء الرحلة بحديث متقطع فى موضوعات متنوعة. انتهى هذا العصر أو كاد.

***
اصطحبتنى المضيفة الاسترالية من باب الطائرة حتى مقعدى ولم تتحرك إلا بعد أن خلعت الجاكتة وتسلمتها. استأذنت لتطمئن إلى أن كعب بطاقة الركوب قد انسل فى جيبها العلوى. عادت بعد ثوان ليتأكد اطمئنانها إلى أننى مرتاح فى المقعد. سألتنى عن حاجتى لشراب بارد والصحف التى أفضلها ثم استأذنت لتعود إلى مكانها على باب الطائرة تستقبل ركابا جدد وتوجه مضيفات أخريات لاصطحابهم إلى مقاعدهم. ثوان مرت وجاء الشراب البارد وصحفى المفضلة تحملها مضيفة صينية، عرفت فيما بعد أنها من تايوان. انشغلت فى الدقائق التالية فى ترتيب أوراق معدة للقراءة وبينها الصحف الأجنبية، وعلى غير العادة لم أنتبه إلى الركاب الجدد الذين وفدوا إلى المقصورة واحتلوا مقاعدهم فيها. كانت عادتى ألا أبدأ فى قراءة الصحف إلا وقد اكتمل وصول الركاب لأختبر فى التعرف على هوياتهم ذاكرتى وخبرتى.

***
بعد الإقلاع بساعة أو أقل قليلا من الساعة توقفت عما بدأت به وهو قراءة الصحف. مر بالممر مضيف ببشرة سمراء وعلى وجهه ابتسامة ضيافة تصلح لكل راكب على حدة. استجبت لابتسامته وطلبت فنجان إسبريسو يكون، إن أمكن، قويا. وفى انتظار القهوة نهضت واقفا ثم خطوت خطوة إلى الممر ومشيت فى المقصورة حتى نهايتها، عدت بعدها إلى مقعدى. كان المشوار كافيا لتعويض ما فاتنى من إشباع رغبة التعرف على هيئة رفاق الرحلة ونوع اهتماماتهم. الغريب، وهو الذى لم يحدث لى فى أى رحلة من قبل، أننى لم أكن قد رأيت بعد رفيقين هما الأقرب، ساكن المقعد الذى يفصله عن مقعدى ممر الطائرة، وساكن المقعد الملاصق لمقعدى من جهة اليسار. كنت دائما أحرص على أن تكون أولى مهامى إعداد «بروفايل» لكل راكب يحتل مقعدا ملتصقا بمقعدى أو يطل عليه من قريب. أديت مهاما أخرى ونسيت أولى المهام.

***
بالمقصورة نحو خمسين مقعدا، أربعون من ركابها منغمسون فى مشاهدة الشاشة المغروسة فى ظهر المقعد الأمامى. خمسة أو ستة ركاب غارقون فى النوم. أربعة أو خمسة ركاب مصريون فى العشرينات من أعمارهم وراكب ألمانى الجنسية ويتكلم العربية بلكنة أردنية هؤلاء لم يرفعوا عيونهم عن مستندات وأوراق عمل يدققون فيها. لم أجد راكبا واحدا أو راكبة واحدة تقرأ فى كتاب. رحت بالذاكرة بعيدا إلى الثمانينات وبالتحديد إلى رحلاتى الشهرية من تونس إلى القاهرة وبالعكس على طائرة شركة الخليج أو الطائرة التونسية أو الطائرة المصرية. وقتها كان مألوفا أن أعود من رحلتى الذهاب والإياب وفى جعبتى قائمة بمعارف جدد من قارئات وقراء الكتب. بل أستطيع أن أشهد بأن بعض أقوى علاقاتى التى استمرت سنوات نشأت بسبب كتاب فى طائرة الرحلة التونسية.

***
بعد رفع صينية الغذاء قررت، ولأول مرة، تقليد الأغلبية التى تشاهد الشاشة. اخترت فيلما أمريكيا يحكى عن مغامرة عنيفة ضد خطة تنفذها الاستخبارات الأمريكية فى دولة أوروبية. اخترته حتى لا أضطر لوضع مكبرات الصوت فسيناريو هذا النوع من الأفلام متكرر وأستطيع تخمين تفاصيل الحوار. حاولت الاندماج مع الرواية فلم أتمكن. ظلت عيناى تزوغان من شاشتى لتستقر لحظات على شاشة جارى الألمانى ومعروض عليها رائعة صوت الموسيقى. لا يعلم الكثيرون ومنهم ابنتى الأصغر وابنتها أننى حفظت كلمات أغانى الفيلم وألحانه واحتفظت بهذ السر لأكثر من ثلاثين عاما. لم أرتح فيما يبدو إلى مشاهدة صوت الموسيقى بدون صوت فراحت عيناى تسترق النظر فى شاشات أخرى ومنها شاشة جارتى الجالسة عبر الممر. كانت الجارة تشاهد فيلما عاطفيا، فهمت أو لعلى تذكرت جوهر حكايته التى تدور حول قضية «الانحراف فى الحب»، بمعنى حاجة الحب مثل أى شىء آخر فى هذا الوجود إلى التغيير الوقتى من أجل البقاء. تزعم كل امرأة تحاورت معها أن القضية مفتعلة، القضية فى نظرها افتعلها الذكور ولم «تخل» على الإناث. حجتها بسيطة فالحب لا يتحمل التحول عنه ولو مؤقتا. الحب لا يتسع لعواطف عابرة والحب لا يتحول أو ينحرف إنما ينحرف به إنسان لا يحب. دفعنى الفضول لأرى وجه هذه الراكبة المنشغلة بهذا الفيلم والساكنة طول الوقت والخافتة الصوت إن تكلمت مع مضيف أو مضيفة. خاب مصممو الطائرات الحديثة حين وضعوا بين كل مقعد والآخر حائل رؤية.. نهضت من مقعدى متوجها إلى الحمام على أمل أن المح فى طريق العودة شكلها وأتعرف على عمرها. لمحتها تنظر فى شاشتى ورأيت جارها على الناحية الأخرى ينظر فى شاشتها. أدرت البصر يمينا ويسارا فرأيت أن قلة فقط هى التى تركز على شاشاتها. أغلبية الركاب مشدودة إلى الشاشات الأخرى ولو من غير صوت. صحيح ما قيل لنا ونحن صغار عن الأشياء فى يد الآخر «عجبة»، دائما أحلى ومرغوبة أكثر.

***
لم أتوفق فى محاولة رؤية وجه جارتى على الممر. توقفت عن السعى وعدت إلى مشاغلى وبين الحين والآخر استرق نظرة إلى صوت الموسيقى ثم أخرى إلى الانحراف فى الحب. لا يعذبنى ضميرى فلا شك عندى فى أن جيران صفى فى الطائرة يختلسون لحظات ليشاهدوا مناظر عنف ومغامرات على شاشتى. مرت ساعة أخرى أو أكثر تناول خلالها الركاب وجبة الغذاء والشراب وبعدها أطفأوا الأضواء باستثناء القليل الخافت المنبعث من لمبات القراءة. فجأة عادت الأضواء وانقطع الإرسال وخرج علينا صوت قائد الطائرة معلنا اقترابنا من حالة انخفاض فى الضغط ومحذرا لاحتمال وقوعنا فى شبكة مطبات جوية. وما هى إلا دقائق معدودة ويتحقق الإنذار فتهتز الطائرة كالريشة وكالعادة ونتيجة تجاربى العديدة مع حوادث الطيران أتوقع الأسوأ وأقبض بشدة على ذراع المقعد وفى أحيان كنت أمسك بيد الجالس بجانبى. تعددت المطبات وراحت الطائرة تهوى وتصعد بغير نظام وتهتز بعنف أشد. اهتزت مرة بقوة إلى حد أن طار هاتفى المحمول ليقع فى الممر بين المقعدين. لم تسعفنى ذراعى فلم تصل يدى. نزعت حزام المقعد وارتبكت أوضاعى وطارت بعض أوراقى. مددت ذراعى مرة أخرى فوصلت يدى إلى أقصى ما أمكنها لتلتقى بشىء آخر. هناك على مقربة من أرض الممر بين المقعدين لمست بعض أصابع يدى أصابع يد ساكنة المقعد على الجانب الآخر من الممر ممسكة بهاتفى لتسلمه لليد الممتدة من ناحيتى. سلمت الجارة الهاتف وأمسكت باليد التى استلمته لتطمئن فيما يبدو لأنه صار فى يد واثقة ومستقرة، ثم سحبت ذراعها بعد أن اطمأنت إلى أنها أمسكت بالهاتف قبل أن يدوس عليه عابر ممر، وقبل أن أتحول وأشيائى الكثيرة إلى حالة أشد ارتباكا.

***
خرجت من فمى حروف تعبر فى مجموعها عن الشكر رغم كونى غير واثق تماما من اللغة التى تتحدث بها الراكبة التى أنقذت محمولى. هبطت الطائرة بسلام على أرض مطار الوصول. انشغلت بجمع أوراقى وأشيائى المبعثرة. انتهيت من لم الشمل لاكتشف أن معظم ركاب هذا القسم من الطائرة غادروا. استدرت وفى نيتى أن أكرر الشكر لجارتى. كان المقعد خاليا بدون أثر يدل حتى على أن راكبا شغله خلال الرحلة.

رحلت الجارة ولم تترك أثرا ولم أر لها وجها أو أسمع لها صوتا. فقط تلامست الأنامل وأظنها لدرء الخوف تحاضنت لمدة ثانية واحدة أو أقل.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي