صراخ الأطفال على الحدود الأمريكية المكسيكية - محمد المنشاوي - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 6:36 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صراخ الأطفال على الحدود الأمريكية المكسيكية

نشر فى : الخميس 21 يونيو 2018 - 9:20 م | آخر تحديث : الخميس 21 يونيو 2018 - 9:20 م

تعكس الأزمة التى تشهدها الحدود الجنوبية للولايات المتحدة المتاخمة للمكسيك، والتى تم فيها فصل ما يقرب من ألفى طفل عن آبائهم وأمهاتهم فى تطبيق إدارة دونالد ترامب لمبدأ عدم التسامح فى سياسة الهجرة الجديدة ليلقى بظلاله على عمق أزمة الهجرة داخل الولايات المتحدة والتى زاد من حميتها وإثارتها وصول ترامب للبيت الأبيض. وتتخذ إدارة ترامب موقفا متصلبا من المهاجرين غير الشرعيين، إذ تطبق سياسة متشددة تعرف بغياب أى تسامح إذ يتم مقاضاة البالغين فورا، وهو ما يؤدى لفصلهم عن أبنائهم. ويهدف ترامب إلى استغلال أزمة فصل الأطفال عن ذويهم كى يتمكن من تمرير تشريعات متشددة تجاه الهجرة والمهاجرين كما وعد خلال حملته الانتخابية والتى تعهد خلالها ببناء سور حاجز عند الحدود الجنوبية لبلاده كى يتمكن من وقف الهجرة غير الشرعية للولايات المتحدة. وأشعل ترامب منذ وصوله للبيت الأبيض حروبا ثقافية أمريكية أهلية داخلية على خلفية قضايا تتعلق بهوية أمريكا ومعنى أن تكون أمريكيا. وجاءت قضية الهجرة على رأس هذه القضايا، ووسط الجدل الحالى حول معاناة الأطفال عند الحدود المكسيكية، لا زال يعبر الحدود الأمريكية سنويا ما يقرب من مليون مهاجر غير شرعى من نفس الحدود، فى ذات الوقت التى ترحل فيه السلطات الفيدرالية ما يقرب من 350 ألف مهاجر غير شرعى أغلبهم من المكسيك تستقبل أمريكا ما يقرب من 900 ألف مهاجر شرعى سنويا.
***
ويعكس تفاقم قضية الهجرة وتبعاتها معضلة تغييرات متناقضة شديدة الأهمية يشهدها المجتمع الأمريكى خلال السنوات الأخيرة، ومثل وصول ترامب للبيت الأبيض اللحظة التى كشفت عن عمق وتجذر هذه التناقضات. فمن ناحية كان نجاح ترامب عاكسًا لما أطلق عليه «العناد التاريخى بعدم الإقرار بما شهدته وتشهده أمريكا من تغيرات دراماتيكية اجتماعية وديموغرافية وثقافية خلال النصف قرن الأخير». فقد هاجر لأمريكا خلال النصف قرن الأخير ما يقترب من 60 مليونا من أمريكا الوسطى وآسيا بصفة أساسية، وهو ما جعل أمريكا وناخبيها أكثر تنوعا واختلافا عما يعتقد كثيرون. يبلغ عدد سكان أمريكا اليوم ما يقرب من 325 مليون نسمة، منهم 61% من البيض مقابل 17.6% من الهيسبانيك (مكسيكيون كاثوليك بالأساس)، و13.3% من السود الأفارقة، و5.6% من الآسيويين، والبقية متنوعة. بعد ما يقرب من 240 عاما على تأسيس الدولة الأمريكية على أسس جوهرها قيم وأفكار بروتستانتية بيضاء، ونجاح هذه الأفكار والقيم تاريخيا فى جعل أمريكا القوة الرائدة فى عالم اليوم بما لها من سبق فى مختلف المجالات والعلوم، إلا أن عدم تفهم التغيرات الكبرى التى أدت إلى قبول مجتمعى بحقوق المثليين جنسيا، أو بحق الإجهاض عند النساء، أو فى المساواة الكاملة بين كل الأمريكيين بغض النظر عن اللون أو الدين أو الجنس، يمثل عقبة كبيرة للحزب الجمهورى المسيطر عليه من بروتستانت بيض فى زمن تزداد فيه نسب الملحدين، ونسب من لا ينتمون لأى ديانة، ويقدر عددهم بـ16%. إلا أن نجاح ترامب كذلك مثل رده من الأغلبية البيضاء المتناقصة عدديا مع مرور الوقت وتشكيل حركة شعبية غاضبة تضم خليطا من المحافظين (المتدينون الإيفانجليكيون)، وهى فئة متدينة ومتشددة اجتماعيا، إضافة إلى الطبقة العاملة (الطبقة الوسطى الدنيا) ذات مستويات التعليم المتوسطة (أقل من الجامعة)، والتى تضم عمال المصانع وأصحاب الوظائف المكتبية ذات الدخول المنخفضة. وهذه الفئة الممثلة للطبقة الجمهورية العاملة بيضاء البشرة فى معظمها. وقد وجدت هذه الطبقة فى «ترامب» نموذجا للتعبير عن غضبها مما يرونه وضعا اقتصاديا متدهورا بسبب قسوة الأزمة اقتصادية 2008 على العديد من القطاعات الحيوية، وفضلت هذه الفئة إلقاء اللوم على الآخرين خاصة المهاجرين.
***
ويعبر خطاب ترامب فى أحد أبعاده عن غضب واضح لما شهدته أمريكا من تغيرات خلال النصف قرن الأخير، ولم تكف خطابات ترامب العنصرية والفاشية السافرة ضد كل ما هو غير مسيحى أبيض كى يأخذ شعبيته نحو القاع، بل يبدو أنها كانت السبب المباشر والأهم فى فوزه بالرئاسة وتأييد سياسته بعد ذلك من الملايين الغاضبين على اتجاه أمريكا نحو مزيد من التنوع العرقى والدينى واللغوى.
ويرتبط كذلك بالتناقضات الأمريكية تجاه قضية الهجرة أصوات تتعالى مطالبة بإلغاء التعديل الدستورى رقم 14، والذى يقضى بمنح الجنسية الأمريكية تلقائيا لأى طفل يولد داخل الحدود الأمريكية. وطبقا للدستور، من حق أى طفل يولد على الأراضى الأمريكية أن يحصل على الجنسية بغض النظر عن جنسية والديه باستثناء حالة أعضاء البعثات الدبلوماسية الأجنبية.
ويثير هذا الحق (الحصول على الجنسية بالميلاد) تباينا وجدلا بين الأمريكيين، حيث يجوز من خلال هذا الحق أن يحصل ابن أو ابنة لأسرة مقيمة بصورة غير شرعية فى الولايات المتحدة على الجنسية، فى الوقت الذى لا يستطيع الوالدان الحصول على أى أوراق أو وثائق حكومية مثل رخصة القيادة أو بطاقة هوية. لكن الطفل فى هذه الحالة يحصل على شهادة ميلاد رسمية من الحكومة الأمريكية، ويستطيع أن يستخرج أهله له جواز سفر أمريكى، ويحق لهذا الطفل بعد بلوغه السن القانونية (18 عاما) أن يطلب حق الإقامة ومن بعده التجنس (بعد مرور 3 ــ 5 سنوات) لوالديه وإخوته.
***
ويزيد من اشتعال الجدل حول قضية الهجرة بصفة عامة اقتراب موعد انتخابات الكونجرس (كل مقاعد مجلس النواب الـ 435، وثلث مقاعد مجلس الشيوخ المائة)، وتلك الانتخابات قد تكون شديدة الأهمية، إذ أنها قد تؤسس حال فوز الديمقراطيين بالكونجرس لإمكانية طلب مناقشة تنحية الرئيس بسبب تحقيقات التدخل الروسى فى الانتخابات الأخيرة.
وهكذا، يبدو أن صراع أمريكا الثقافى فى بداياته، ولن ينتهى هذا الصراع خلال سنوات حكم ترامب سواء بقى أربع سنوات أو ثمانية. هو صراع يتخطى ترامب بين هؤلاء ممن يريدون بقاء بلادهم بوتقة ينصهر فيها الجميع يشكلون معا أمريكا جديدة متنوعة وعصرية، وبين هؤلاء ممن يريدونها بيضاء مسيحية بروتستانتية.

محمد المنشاوي كاتب صحفي متخصص في الشئون الأمريكية، يكتب من واشنطن - للتواصل مع الكاتب: mensh70@gmail.com
التعليقات