مصر.. المثقف والسلطة والإخفاق الديمقراطي - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 11:02 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر.. المثقف والسلطة والإخفاق الديمقراطي

نشر فى : السبت 21 نوفمبر 2015 - 1:25 م | آخر تحديث : السبت 21 نوفمبر 2015 - 1:25 م

ما لم تستند إلى تحليل موضوعي للعوامل الرئيسية التي مكنت مؤسسات وقوى السلطوية من الاستئثار مجددا بالحكم في صيف 2013، فإن الحركة الديموقراطية المصرية لن تتجاوز أبدا وضعيتها الهامشية الراهنة وتستعيد بعضا من الالتفاف الشعبي المفقود حول مطالبها الكبرى كتداول السلطة وسيادة القانون وضمانات الحقوق والحريات. ومن بين ما يستأهل التحليل الموضوعي في هذا السياق يأتي دور نخب المثقفين في تبرير السلطوية الحاكمة وإضفاء شرعية أخلاقية ومجتمعية وسياسية زائفة على مظالمها وانتهاكاتها وإخفاقاتها المتكررة، وتأتي أيضا التداعيات السلبية لعزوف بعض المثقفين عن الشأن العام وعناصر الوهن التي تحبط دور المثقف المعارض.

فمن جهة، يسيطر على عموم مشهد المثقفين في مصر ثلاثة حقائق رئيسية: استتباع النخب من قبل الحكم وانخراطها في خدمته نظير الحماية من القمع الرسمي والحصول على بعض العوائد المتمثلة إما في نصيب من الثروة والنفوذ أو في "المنح المالي" من قبل المصالح المتحالفة مع الحكم، ابتعاد شريحة أوسع من المثقفين عن قضايا الحكم والسلطة وانصرافها أيضا عن الانخراط في الشأن العام واكتفائها بالصمت على المظالم والانتهاكات، انضمام نفر قليل من المثقفين إلى دوائر معارضة الحكم وتبنيها لمطلبية التغيير المستندة إلى إيقاف الظلم واستعادة العدل للمواطن والمجتمع والدولة الوطنية.

***

تقليديا، تتفاوت تفسيرات ظاهرة المثقف الملتحق بالحكم بين: 1) إشادة زائفة بها كصنو "فعل وطني" من قبل المثقف الصارخ يوميا بالطبيعة الاستثنائية "للزعيم الخالد" وبكون وجوده ضرورة لإنقاذ الوطن وبقاءه شرط لإنقاذ الأمة وحكمته لا بديل لها إقليميا وعالميا. 2) وتفسير أقل زيفا لها كدليل "رغبة صادقة" من قبل المثقف للاضطلاع بدور جاد يستهدف "الإصلاح من الداخل" والعمل على الانتصار لحد أدنى من العدل والحق والحرية داخل سياقات حكم يستحيل إنكار طابعه الاستبدادي تماما كما يتعذر مقارعة سيطرته على المواطن والمجتمع والدولة. 3) وتقريع مثالي لها كمرادف "لخيانة صاخبة" للمثقف لمسؤوليته الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية التي تلزم بمواجهة الاستبداد، وينبغي أن تحول دون الانخراط في خدمة السلطان وقبول ريعه، مثلما تحول دون الخوف من القمع والعنف الرسميين والاستسلام لحساباتهما الزائفة.

أما ظاهرة المثقف العازف عن قضايا الحكم والسلطة في مصر والمنصرف أيضا عن الشأن العام، فتهيمن على تحليلها أيضا بعض التفسيرات النمطية التي تتراوح بين التبسيط المخل والمثالية: 1) فتعتبرها، تارة، حقيقة ناتجة من تمكن الخوف من المثقف بفعل قمع المستبدين وقدرة خدمتهم والمصالح المتحالفة معهم على العبث بحياة الناس والإخلال بمرتكزاتها في المجالين الخاص والعام، وفي الكثير من الأحيان يحمل حديث الخوف هنا أيضا بمضامين وصم المثقف العازف "بالخيانة الصامتة" لمسؤوليته الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية. 2) وتارة، تنظر إليها كترجمة مباشرة ليأس المثقف والمظالم والانتهاكات تحيط به من كل صوب، وافتقاده للأمل في إحداث التغيير باتجاه العدل والحق والحرية وهيستيريا تأييد "الزعيم الخالد" تختزل المواطنات والمواطنين إلى جموع صماء يزج بها جهلا وتطرفا ونزعا للإنسانية إلى خانات تبرير الاستبداد، هنا ينصرف المثقف يأسا وإحباطا وقبل الشعورين اغترابا عن معاصريه الذين يرضون الضيم وإلغاء الضمير والعقل. 3) أو تقارب العزوف كفعل طبيعي لا علامات خوف به ولا يأس، جوهره الوحيد اقتصار المثقف على دوره المهني، إن في الحياة الفكرية والأدبية أو في أروقة الجامعات والبحث العلمي أو في وسائل الإعلام ومن ثم تكثيف المثقف العازف عن قضايا الحكم والسلطة لعمله التوعوي في حقل تخصصه.

***

وفيما خص المثقف المعارض للسلطة، فيندر في مصر التعامل مع مضامين وتحديات دوره على نحو به من الموضوعية ولو الشيء اليسير: 1) فالمثقف المعارض يصنف من قبل الحكم وخدمته والمصالح المتحالفة معه كمرتكب "لجرم الخيانة الوطنية" لكونه يرفض الالتحاق بركب الزعيم الخالد ويماري في "الضرورة الوطنية والقومية والعالمية" التي تفرض "تأييده وإعانته" على إنقاذ مصر من مؤامرات أعداء الداخل والخارج. 2) وينظر بعض المنتسبين إلى خانات رفض الاستبداد إلى المثقف المعارض كبطل من نوع آخر، يقتنعون بأفكاره ومبادئه والمطالب التي يطرحها أملا في التغيير الديمقراطي، ويرون عناصر الإقدام والجلد على مقاومة السلطة والاستعداد للتضحية متجسدة في شخصه ودوره الذي يرفع بذلك إلى مقام مثالي يخلو من الواقعية ومن الاعتبار للعناصر الاعتيادية للضعف الإنساني. 3) بينما يجرد المثقف المعارض في مصر من قبل معارضين آخرين من كل "قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية"، ويواجه بعنف لفظي ينزع عنه ما يرونه هم "ادعاءات النضال الزائفة"، والسبب دوما إما الاختلاف في الأفكار والمطالب الآنية أو الشكوك التي تراكمها في بعض الأحيان تقلبات مواقف المثقف وعجزه عن شرحها، وفي أحيان أخرى تقلبات مواقف المعارضين الآخرين وتورطهم في الإقصاء، وترتبها في جميع الأحيان طبائع الاستبداد التي تصنع من الشك ومن العنف اللفظي حقيقتين مجتمعيتين رئيسيتين.

قد يقوى المثقف المعارض على اعتياد تشويهه المستمر من قبل خدمة السلطان، وقد يطور بعد فترة زمنية تقصر أو تطول قدرة واضحة على المقاومة وإظهار جهل ومكارثية خدمة السلطان. وربما يملك المثقف المعارض أدوات متنوعة لمواجهة اتهامه "بالنضال الزائف" من قبل رفاق درب سابقين ولاحقين، ويمكنه أن يربط بين ذلك بأمانة وبين مراجعة مواقفه والاعتذار العلني عن أخطائه والبحث عن فرص لتجديد الحوار مع الرفاق وإحياء اصطفافهم في مقاومة الاستبداد. غير أن هالات "بطولة" المثقف المعارض تضعه في خانات يصعب عليه أخلاقيا وإنسانيا ومجتمعيا التعامل معها. فالمثقف "البطل" لا يستطيع التعبير الطبيعي والصادق عن الشعور بالخوف إزاء قمع السلطة واستطاعتها العبث بحياته في المجالين الخاص والعام. وإن صرح بالخوف وبتفاصيل مقاومته له لكي لا يصمت عن الظلم، والصراع النفسي والعقلي بداخله بشأن التوازن بين أولوية حماية حياته وأسرته وبين الاستعداد للتضحية، يتهم فورا من قبل أصحاب الصوت المرتفع والمضمون المتهافت بالخيانة التي يتبعها قصف لفظي من شاكلة "دجنته السلطة بعوائدها" أو "دجنه الخوف." وإن جهر بشعوره الإنساني بالهزيمة واليأس والاغتراب خرجت عليه طوائف "الحنجوريين"، الذين لم يعدمهم أبدا المجال العام في مصر ويحضرون ككتلة عابرة للأجيال العمرية وممثلة في كافة وسائل التعبير العلني عن الرأي من الإعلام التقليدي إلى وسائط التواصل الاجتماعي، متهمة إياه بالضعف والحماقة. وإن مارس المراجعة والاعتذار والنقد الذاتي، أعملوا فيه سهام الإلغاء والإسكات، وأخضعوه لاستبداد من نوع آخر، استبداد الاستغراب. وحصيلة كل ذلك هي وهن المثقف المعارض ومحدودية فاعليته.

***

هام جدا أن يشرح الدور الراهن للمثقفين في تبرير السلطوية الحاكمة في مصر التي اختاروا الالتحاق بها، وفي تمكينها حين يعزفون عن الشأن العام، وفي العجز عن مقاومتها الجادة حين تتكالب عناصر الوهن على المثقف المعارض. فقد كان هذا الدور بتنوعاته من العوامل الرئيسية التي أنهت تجربة التحول الديمقراطي 2011-2013.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات