خالد يوسف و«سرّه الباتع» - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خالد يوسف و«سرّه الباتع»

نشر فى : السبت 22 أبريل 2023 - 7:20 م | آخر تحديث : السبت 22 أبريل 2023 - 7:20 م
تناولتُ فى مقالٍ سابق «سرّه الباتع» كنص أدبى ليوسف إدريس، محوره البحث عن سرّ الشعب نفسه، فى سكونه وثورته، وفى علاقة الشعب بالبطل، وفى فكرة الإيمان بالمعجزة، وكلها أفكار مجردة ارتدت ثوب حكاية بسيطة، وهذا موضع عظمة النص وتفرده.

كتبتُ أيضًا عن رحلة حامد المعرفية كبعث جديد، وعن امتدادٍ واضح بين حامد السلطان المقاوم، وبين حامد الحفيد العارف، وهو حفيدٌ بالمعنى وبالفكرة، وليس بالنسب الحقيقى. بناء النص كله محوره نقل الأسطورة من مقام الشيخ، إلى مقام الشعب، ومقام البطل المعبّر عنه. من تهاويم وحكايات غامضة، إلى شهادة من عالم فرنسى رأى وسمع ودوّن وكتب.

أى أن فكرة «سّره الباتع» كلها تجعل الأسطورة والمعجزة فى الشعب وبطله، وليست فى المقام، وإن ظل المقام رمزًا دالًا على البطل والشعب معًا، ولكن الأسطورة والمعجزة فى الشعب وبطله، حتى لو لم يدركا ذلك. هذا عن الأصل الأدبى، فماذا عن رؤية خالد يوسف، صاحب المعالجة الدرامية والإخراج فى المسلسل التليفزيونى «سرّه الباتع»؟
لا بد من التنويه أولًا بأنه يحسب ليوسف الالتفات إلى أهمية وخطورة النص الأدبى لإدريس، سواء على مستوى الفكرة، التى تكاد تفسر مراحل كثيرة من تاريخ المصريين، ومن عناصر الشخصية المصرية، أو على مستوى إمكانيات النص الدرامية.

فَهْمُ يوسف للنص كان كذلك صحيحًا، وخاصة فى الربط الصريح بين الحاضر والماضى، وفى محاولة اعتبار حامد المعاصر امتدادًا لحامد القديم، بل إننى أكاد أجزم أن إدريس لم يستدعِ أسطورة السلطان حامد، إلا ليوقظ حامد المعاصر، الخارج توًّا من كارثة 1967، وهى بالمناسبة نفس الفترة التى كتب فيها جمال حمدان الفصول الأولى من كتابه الأشهر «شخصية مصر».

من حق يوسف أيضًا أن يقدم وجهة نظره بأن يرى فى ثورات الحاضر، امتدادًا لثورات ومقاومة الماضى، رغم اختلافات كثيرة ومحورية بين ما حدث فى سنوات الحملة الفرنسية، وبين ما حدث فى ثورة يناير وما بعدها، ولكنه يمكن أن يرد، ومعه الحق، بأن الحكاية عن الشخصية المصرية، وعن الشعب، الذى يحدد متى يثور؟ وكيف يثور؟ بصرف النظر عن الأسباب والدواعى.

إلا أن المعالجة الدرامية التى تنقل رؤية يوسف لم تكن مع الأسف على مستوى هذا الطموح الكبير، الذى يجب الإعتراف بأهميته.
يقوم نص إدريس على ثلاثة أبطال: حامد المعاصر، وحامد القديم، والعالم الفرنسى الذى سيحل اللغز، والثلاثة موجودون فى مسلسل يوسف، وهم أعمدة الدراما، ولكنهم، للمفارقة، أضعف شخصياتها. إنها شخصيات أحادية الجانب، لا تنمو ولا تتطور، بل وتكاد تكرر كلماتها.
حامد المعاصر بأداء أحمد فهمى، شخصية باهتة، أقرب إلى السذاجة والبلاهة أحيانًا، ويبدو جلفًا وجاهلًا، مفتونًا بالأسطورة، لا باحثًا عن المعرفة، وكأنه بئس الحفيد لأعظم الأجداد، بينما يفترض أن يكون جديرًا بالخلافة.
زاد الطين بلّة محاولة يوسف أن يجعله حفيدًا «فعليًّا» لحامد القديم، وليس حفيدًا بالمعنى المجازى، بينما المغزى الأفضل بأن يكون المصريون جميعًا أحفادًا بالمجاز لحامد الذى انتشرت مقاماته فى كل البلاد.
أما حامد القديم فنراه بطلًا ومتمردًا من أول مشاهده، ويظل على هيئته الثورية من البداية للنهاية، وإن كان هناك جهد أفضل فى تأصيل حكاية ثورته وظلمه وبتر إصبعه.
ويظل العالم الفرنسى أيضًا بأداء حسين فهمى ظاهرة صوتية، تكاد تكرر نفس الكلام فى حواراتها مع بينو أو مع بونابرت.
المشكلة الثانية الكبرى فى فشل ضبط العلاقة بين الماضى والحاضر، سواء من حيث قوة الأحداث، أو من حيث اللجوء إلى فكرة البحث عن الخطابات المدفونة، أو من حيث طبيعة المعالجة. فبينما نشهد ــ مثلًا ــ معارك ضارية مع الجنود الفرنسيين فى الماضى، نرى صراعًا كاريكاتوريًا هزليًّا مع عصابة لتهريب الآثار فى الحاضر.

والأسوأ من ذلك أن تقوم دراما الحاضر كلها على فكرة عبثية غير معقولة، محورها نبش مقامات الأولياء، للعثور على خطابات ورقية مكتوبة باللغة بالفرنسية.

أتفهم تمامًا حاجة الدراما إلى صراع واضح، ولكنها تحتاج أيضًا إلى خيال محكم، وهذا الخيال الذى يحفر تحت المقامات للعثور على ورقة مكتوبة يبدو ساذجًا، ولا ينافسه إلا ظهور درويش حقيقى، لعب دوره خالد سرحان، لكى يكمل بقية الحكاية، وهو نفس الدرويش الذى سيقول إن حامد المعاصر حفيد حقيقى لحامد القديم، بدليل شعور الحفيد بالمرض فى نفس الساعة التى قتل فيها جده!!

هنا ارتباك كامل بالعودة للأسطورى المفارق للواقع، بينما يعمل النص الأدبى والمسلسل كله، على إنزال الأسطورى إلى حاضر الشعب وتاريخه.

ظلت المشكلة الثالثة الواضحة فى سيادة النبرة العالية، سواء فى مسألة مقاومة الفلاحين للثورة الفرنسية، أو فى أحداث ثورة يناير وما بعدها.

لا أقصد بالنبرة العالية كثرة الهتافات والمظاهرات فحسب، ولكنى أقصد أيضًا ما رأيناه من أداء الممثلين عمومًا، ومن الاستخدام الميلودرامى للموسيقى على طريقة السينما الهندية.

الحكاية لا تنقصها الثورة، ولكن ظلت تنقصها الطريقة «البسيطة والهادئة» التى تقدِّم بها تفاصيلها، والتى تجعلها قابلة للتصديق. المشكلة فى رؤية يوسف عمومًا للدراما، بأنها يجب أن تكون مجسمة وصريحة.
والضجة التى أثيرت حول جسد الممثلة التونسية، لا أراها ضجة شكلية، لأنها جزءٌ من مشكلة هذا «الصخب الشكلى والصوتى والبصرى» فى المسلسل.

فالمسألة ليست فى أن تكون الممثلة قادرة على الإغراء، ولكن فى «تجسيم» ذلك حتى «قبل» أن تقوم بإغراء تاجر الآثار.

أى أن الممثلة كانت إغراء متنقلًا مستقلًا عن الدراما، مثلما ظل حامد القديم ثائرًا مستمرًا، والعالم الفرنسى متعاطفًا أبديًّا، وحامد المعاصر تائهًا وساذجًا أزليًّا.

قوة نص «سره الباتع» فى أن صوت الفن كان أعلى من صوت الفكرة، بينما تبدو مشكلات «سره الباتع» كمسلسل فى أن الأفكار داخل خالد يوسف ما زالت أعلى صوتًا بكثير من أدوات الفنان.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات