٣٠ يونيو من جديد: من حمى من؟ - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

٣٠ يونيو من جديد: من حمى من؟

نشر فى : الجمعة 22 يوليه 2016 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 22 يوليه 2016 - 9:05 م
بأى قياس يصعب وضع التجربتين المصرية والتركية فى سياق واحد.

الحوادث من طبيعة مختلفة والسياقات متباينة بالكامل وعقيدة الجيشين غير متفقة تماما.

فالجيش التركى يعتبر نفسه حاميا للدستور والعلمانية منذ سقوط الخلافة العثمانية بقيادة «مصطفى كمال آتاتورك» عام (١٩٢٣) بينما الجيش المصرى عقيدته وطنية بالتكوين التاريخى منذ تأسيسه الحديث على عهد «محمد على».

الأول، انقلابى وسجله فى الحكم سيئ بما نزع عن محاولته الأخيرة أى غطاء شعبى.

والثانى، منضبط تقليديا ولم يعهد عنه أية نزعات انقلابية.

بأى تعريف كلاسيكى فإن «الثورة العرابية» بثمانينيات القرن التاسع عشر بدت تمردا عسكريا على الخديو «توفيق» اكتسب صفة الثورة من عمق ارتباطه بالفكرة الوطنية التى رفضت أى تمييز داخل الجيش ضد الضباط والجنود المصريين واتصال تفاعلاته مع معاناة الأغلبية الساحقة من مواطنيه حتى وصف بأنه «ثورة الفلاحين».

بنفس التعريف فإن ثورة يوليو عند منتصف القرن العشرين بدت انقلابا أطاح بآخر ملوك أسرة «محمد على»، غير أنها اكتسبت صفة الثورة بحجم التغييرات الجراحية فى البنية الطبقية للمجتمع المصرى وعمق التغييرات الاستراتيجية التى أحدثتها فى معادلات القوة والنفوذ بالعالم الثالث، كأن الانقلاب الكلاسيكى الوحيد هو الثورة الكلاسيكية الوحيدة.

رغم كل السياقات المختلفة فهناك تقاطعات تطرح أسئلتها فى ظلال الانقلاب الفاشل فى تركيا.

هل كان يمكن أن يحدث سيناريو مشابه فى القاهرة لما جرى فى اسطنبول ينال بقسوة من المؤسسة العسكرية إذا فشلت (٣٠) يونيو؟

بصياغة أخرى: من حمى من؟

بإجابة مباشرة فإن الشعب والجيش كليهما حمى الآخر.

إذا لم تكن هناك تظاهرات شعبية بعشرات الملايين تطلب مدنية وديمقراطية الدولة لما كان ممكنا لأى تدخل عسكرى، أيا كانت أسبابه ومبرراته، أن ينجح.

بصياغة أخرى اكتسب التدخل العسكرى شرعيته من الانحياز للإرادة الشعبية وحدها.

الشرعية فارق حاسم بين الثورات والانقلابات.

إذا كان التدخل بلا غطاء شعبى يستدعيه لمنع الاحتراب الأهلى و«أخونة الدولة» فإنه انقلاب عسكرى.

وقد أفضى التدخل، رغم شرعيته، إلى تعقيدات وأزمات فى علاقة السلطة الجديدة بعالمها وقيمه مازالت ماثلة حتى الآن.

فى (٢) فبراير (٢٠١١) سأل قائد عسكرى بارز المشير «محمد حسين طنطاوى» إطاحة «حسنى مبارك» من الرئاسة: «اقلبه».

رد على الفور: «لن يعترف بنا أحد فى العالم».

بعد عشرة أيام كان ذلك طبيعيا بقوة زخم «ثورة يناير» ومقبولا وملهما للعالم بأسره.

المعنى نفسه كان ماثلا فى أجواء ما قبل (٣٠) يونيو، فالإدارة الأمريكية لم تكف عن ضغوطاتها حتى لا يتدخل الجيش أيا كانت أحجام التظاهرات ومستويات الأخطار، ولا عن طمأنة «الإخوان المسلمين» أنه لن يحدث مثل هذا التدخل تحت كل الظروف، على ما تعهدت السفيرة الأميركية السابقة «آن باترسون» لرجل الجماعة القوى «خيرت الشاطر».

بقوة الحشود الشعبية غير المسبوقة فى أحجامها كان التدخل ممكنا ونجاحه محتما.

من هذه الزاوية فإن الجيش حمى شعبه من احتمالات الانجراف إلى احتراب أهلى ومنع الجماعة من فرض هيمنتها الكاملة على مفاصل الدولة والمجتمع.

بالمقابل فإن الشعب حمى جيشه من سيناريوهات قاسية.

كانت الجماعة تعتقد أن الجيش هو العقبة الكبرى التى تمنع المضى فى التمكين إلى نهاياته.

عندما كان «محمد مرسى» رئيسا لحزب «الحرية والعدالة» سأل اللواء «حسن الروينى» قائد المنطقة المركزية: «متى يدخل الإخوان المسلمون الكليات العسكرية؟»، كانت الإجابة: إن ذلك لن يحدث.

فى توقيت مقارب خاطب ‫«‬خيرت الشاطر» اللواء «عبدالفتاح السيسى» مدير المخابرات الحربية آنذاك بطلب أكثر تحديدا، أن تكون هناك حصة فى الكليات العسكرية لأعضاء الجماعة، وكانت الإجابة رفضا قاطعا، فالجيش ليس ميليشيا تتقاسمها الأحزاب والجماعات.

لم يكن الرفض فى المرتين اجتهادا شخصيا بقدر ما كان موقفا نهائيا لمجمل المؤسسة العسكرية.

لهذا السبب بدا التحرش بالجيش يأخذ منحى تصعيديا منذ صعود «مرسى» للرئاسة.

بافتراض أن (٣٠) يونيو لم ينجح فى تعبئة طاقة المجتمع كله فإنه كان يصعب ـ أولا ـ تدخل الجيش لإطاحة الجماعة من الحكم، وإذا حدث مثل ذلك التدخل بلا غطاء شعبى فهو انقلاب عسكرى محكوم عليه بالفشل.. كما كان يصعب ـ ثانيا ـ تدارك التلاعب بشئونه وترتيباته الداخلية وإحكام السيطرة عليه، وربما العمل على الانتقاص من كبريائه وإذلاله على نحو ما جرى فى تركيا.

رغم انكسار الرهانات الكبرى فى (٣٠) يونيو فى طلب استعادة «يناير» التى اختطفت، فإذا بها هى الأخرى تختطف من غير الذين دفعوا فواتير تضحياتها، إلا أن الفعل الثورى فى المرتين شهادة استحقاق للمصريين لا يمكن إنكارها أو الاستهانة بها.

بالحقائق الأساسية فقد ارتكبت الجماعة كل الأخطاء الممكنة لكى نصل إلى معادلة «كل شىء أو لا شىء» من تشويه المسار السياسى بالإعلان الدستورى فى نوفمبر (٢٠١٢)، الذى خول رجلها فى «الاتحادية» صلاحيات العصف بمعارضيه داخل مؤسسات الدولة وخارجها، إلى حصار المحكمة الدستورية العليا والتوجه لفصل ثلاثة آلاف قاض مرة واحدة، إلى حصار مدينة الإنتاج الإعلامى والتلويح باستخدام القوة ضد الصحفيين والإعلاميين الذين يعارضونها.

كل ذلك قوض أية قواعد ديمقراطية ولاح فى الأفق تحالف يضمها إلى جماعات إرهابية فى سيناء والداخل المصرى.

ما جرى فى تركيا من «انقلاب مضاد» بعد فشل الانقلاب العسكرى يوحى بعقلية واحدة رغم اختلاف السياقات.

فهناك توجه فى الحالتين لاختراق المؤسسة العسكرية، التحرش بها فى مصر وإذلالها فى تركيا، والاعتماد بصورة أكبر على المؤسسات الأمنية لفرض الهيمنة الكاملة.

فى تركيا استخدم الأمن والاستخبارات لمواجهة الجيش.. وفى مصر جرى اختراق المؤسسات الأمنية والسعى لأخونتها بصورة سهلت قاعدة معلومات حازتها الجماعة عمليات اغتيال لضباط شرطة تلت تحولات (٣٠) يونيو.

كانت هناك قوائم اعتقالات مسبقة لقيادات جبهة «الإنقاذ» وشخصيات سياسية وإعلامية أخرى على النحو الذى أقدم عليه «أردوغان» فى «الانقلاب المضاد» الذى أفضى جموحه إلى اعتقال وتوقيف وفصل عشرات الآلاف من الجيش والشرطة والقضاء والجامعات والهيكل الإدارى للدولة وتجميد أى التزام بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والعمل على عودة عقوبة الإعدام للانتهاء من معارضيه إلى الأبد.

بأى تقدير لا يحق لمن يبررون العدوان البشع على الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان فى تركيا أن ينتقدوا السجل نفسه فى مصر.

القيم الأخلاقية والسياسية لا تتجزأ والالتزام بدولة القانون لا يصح الإخلال به أيا كانت التبريرات.

حتى الإجراءات الاستثنائية تنظمها الدساتير والديمقراطيات.

ما تحتاجه مصر أن تؤكد أحقيتها فى بناء دولة مؤسسات ودولة قانون، تصالح مستقبلها وتفرج عن معتقلى الضمير من الأجيال الجديدة، تصلح أجهزتها الأمنية، وتنظر إلى ثورتها فى (٣٠) يونيو باحترام يلتزم أهدافها فى التحول إلى دولة ديمقراطية مدنية حديثة.

ذلك وحده هو جذر الشرعية الدستورية.