بريطانيا العظمى.. ملكية أم جمهورية؟ - أكرم السيسى - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بريطانيا العظمى.. ملكية أم جمهورية؟

نشر فى : الخميس 22 سبتمبر 2022 - 7:30 م | آخر تحديث : الخميس 22 سبتمبر 2022 - 7:30 م

لفتت مظاهر مراسم تأبين ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، ومراسم تنصيب ولى العهد شارلز الثالث ملكا على العرش خلفا لأمه أنظار العالم بأثره، وذلك لعدة أمور:
الأمر الأول يرجع إلى خصوصية الملكة إليزابيث فى تاريخ المملكة، وتأتى خصوصيتها لعدة أسباب هى فى الحقيقة سبب اهتمام كل شعوب العالم بوفاتها ومتابعة إجراءات التأبين والدفن:
أول الأسباب أنها كانت الملكة الدستورية لأربع عشرة دولة من مجمُوع أربعة وخمسين من دول الكومنولث؛ كانت ملكة المملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، ورئيسة الكومنولث، كما ترأست كنيسة إنجلترا الأنجليكانية منذُ اعتلائها العرش 1952 وحتى وفاتها 2022!
وثانيها أنها عاشت أكثر من ستة وتسعين عاما (1926ــ2022)، وحكمت أطول فترة حكم فى تاريخ بريطانيا، أكثر من سبعين عاما، حيث اعتلت العرش فى سن السادسة وعشرين، بعد فترة قليلة من زواجها، وقد شهدت الملكة طوال حياتها المديدة، على المستويين الشخصى والعام، أحداثا جثاما، وتطورات عالمية كبيرة وعظيمة: سياسية واقتصادية وعلمية وثقافية.
من الملاحظ أن حياة الملكة إليزابيث ابنة الملك جورج السادس تُعد منذ ولادتها نموذجا نادرا لامرأة حكمت دولة عظمى، كان من الممكن أن تبحث عن مُتعها وشهرتها وخصوصياتها، إلا أنها آثرت أن تقدم لحكام العالم نموذج الحاكم (ة) الرشيد(ة)، ولشعبها ولشعوب العالم مثال الزوجة الملتزمة والأم الحنونة.
كانت متفردة منذ ولادتها، جاءت للحياة بعملية قيصرية، وكأنما تريد أن تعلن منذ اللحظة الأولى أنها ليست مثل الآخرين، ومن خصوصياتها أيضا أنها حملت ثلاثة أسماء: الأول «إليزابيث» نسبة إلى والدتها، والثانى «ألكسندرا» نسبة إلى والدة جدِها الملك جورج الخامس، والثالث «مارى» نسبة إلى جدَتها لأبيها، فضلا عن أن عائلتها المقربة منها كانت تناديها بـ«ليليبت»!
تزوجت 1947 وسنها إحدى وعشرون من الأمير فيليب مونتباتن، من أصول ملكية يونانية ودنماركية، تعرفت عليه فى سن الثالثة عشر؛ تزوجته على غير رغبة والديها لأنه لم يكن إنجليزى الأصل، وكان وضعه المالى سيئا، كما كان أرثوذكسيا ثم تحول إلى الكنيسة الإنجلينيكية، استمر زواجهما أربع وسبعين سنة، أكبر فترة زواج فى تاريخ ملوك بريطانيا، وهذا يدل على بصيرتها الصائبة؛ أنجبت منه أربعة: ثلاثة أبناء وابنة واحدة، وهذا فيه إشارة لحب الأمومة، وحبها لزوجها أيضا، كما أنها المرأة الوحيدة التى لم تنتسب لعائلة زوجها «مونتباتن» مثلما هو متعارف عليه فى الغرب، واحتفظت باسم عائلتها «وندسور»، وفيما بعد حمل أولادها اسم العائلتين «وندسور مونتباتن»!
شاركت فى الحرب العالمية الثانية وهى ما زالت طفلة فى الرابعة عشرة من عمرها، حفزت الأطفال، على قناة الـ«بى بى سى» قائلة: «إننا نحاول فعل كل ما بوسعنا من أجل مساندة جنودنا والبحارة والطيارين البواسل، كما نحاول أيضا تحمل نصيبنا من أسى وخطر الحرب...»، وفى سن الثامنة عشرة أصبحت واحدة من خمسة مستشارين للدولة، وفى 1945، انضمت للخدمة الإقليمية الداعمة للمرأة، وتدربت على القيادة والميكانيكا، وبعد انتهاء الحرب، وفى يوم الاحتفال بالانتصار، تنكرت هى وشقيقتها مارجريت واختلطتا مع الحشود التى كانت تحتفل فى شوارع لندن!
كانت طوال حياتها مثالا للأناقة والرقى، ملابسها دائما تقليدية؛ فى المناسبات الرسمية، كانت ترتدى معطفا وقورا بألوان زاهية ومن تحته فستانا تقليديا، وتضع على رأسها قُبعة بلون متناسق مع معطفها، وفى المناسبات الخاصة، كانت ترتدى الفساتين التقليدية، لم نرها أبدا ترتدى بنطالا أو بذلة، فكانت حريصة جدا على مظهرها الأنثوى، وكانت رياضتها المفضلة الفروسية، جعلتها «فارسة» فى حياتها تتسم بالشهامة والرقى، فلقد جسدت احترام العادات والتقاليد بشكل نموذجى!
• • •
على المستوى الرسمى، من المعروف أن بريطانيا دولة نظامها ملكى دستورى، أى أن الملك (ة) يملك ولا يحكم، إلا أن هذا لم يكن بشكل مطلق مع الملكة إليزابيث، فقد ثبت أنها كانت تجتمع أسبوعيا برؤساء الوزارة لتناقش معهم (هن) كل قرارات الحكومة المنتخبة، وقد سمعنا عن خلافات كبيرة بينها وبين رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر التى عُرفت بـ«المرأة الحديدية» لعدم خضوعها لتوجيهات الملكة، ومن هذا نفهم أن الملكة كانت تحكم من وراء ستار، ولكنها كانت تحترم رأى الأغلبية بالانتخابات والاستفتاءات، ولم تكن تشارك بصوتها فيهما، لتثبت حيادها التام، لتؤكد بهذا أنها ملكة لكل التوجهات السياسية، ودليلا على ذلك أنها كانت مُعارضة لخروج بلادها من الاتحاد الأوروبى، ولكنها وقَعَت على «البريكست» لأن أغلبية الشعب أقرَت بذلك!
هذا لا يعنى أنها كانت مثالية بشكل مطلق، فمفهوم الحاكم المُلهم والزعيم الخالد يتناقض مع الطبيعة البشرية التى تُخطئ وتصيب، فالعظمة والخلود والكمال لله وحده؛ لم نسمع عن الملكة الراحلة أنها اعترضت على مشاركة جيشها فى العدوان الثلاثى على مصر، ولا حربه على العراق رغم اعتراض الأمم المتحدة فى 2003، أو أنها أدانت أو أعتذرت عن أى عمل استعمارى لبلادها قبل تربعها على العرش! وفى المقابل، يُحسب لها أنها الشخصية الرسمية الغربية الوحيدة التى لم تقم بزيارة لإسرائيل رغم أن الأخيرة صنيعة بلادها؛ ومما لاشك فيه أنها كانت متفانية فى خدمة وطنها وشعبها، وكانت متصالحة مع نفسها ومع غيرها، لقد كانت صمام أمن وأمان لشعبها.
حامت حولها الشبهات فى حادثة موت الأميرة ديانا 1997 التى أرادت أن تُحدث ثورة على تقاليد القصر، فطلقها ابنها ولى العهد، ولكن الملكة نجحت ــ برجاحة عقلها ــ فى امتصاص غضب الأغلبية، فكسرت التقاليد وحضرت جنازتها، وأحْنَت رأسها لنعش الأميرة؛ وعندما سمعت بأصوات تنادى بإنهاء النظام الملكى لأنه يكلف الشعب الكثير من ضرائبه، تحركت بسرعة، وفرضت الضرائب على نفسها وأفراد عائلتها، وقلَصت من أعداد الأسرة المالكة، هكذا كانت تستجيب بسرعة لنبض شعبها!
والأمر الثانى الذى يجعل العالم يهتم بما يحدث فى بريطانيا يرجع أولا إلى مكانة الدولة البريطانية بتاريخها الطويل والحافل بالأحداث الهامة؛ فيها تأسست الكنيسة الأنجليكانية فى القرن السادس عشر صاحبة الحركة الإصلاحية ضد الكنيسة الكاثوليكية للمطالبة بالسماح بالطلاق وبتعدد الزوجات تلبية لرغبة الملك هنرى الثامن الذى كانت له ست زوجات، منها واحدة مطلقة، وفيها أيضا قامت الثورة الصناعية الأولى، فى منتصف القرن الثامن عشر، فبريطانيا بلا شك دولة أثرت فى تاريخ البشرية كلها منذ تأسيسها وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، قبل صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يَفُل نجمها إلا بعد هزيمتها فى العدوان الثلاثى 1956؛ فهى الدولة التى لعبت دورا رئيسيا فى رسم خريطة العالم الحديث مع الإمبراطورية الفرنسية، وكان يطلق عليها «الإمبراطورية البريطانية» باعتبارها الدولة التى كانت لا تغيب عنها الشمس، وذلك لكثرة مستعمراتها حول العالم، فقد استعمرت ربع أراضى العالم!
والأهم من ذلك هو احتفاظ المملكة بالتقاليد والعادات والبروتوكولات القديمة على الرغم من تغيُر المفاهيم وتطور التقنيات فى العالم كله نظرا للتقدم العلمى الهائل؛ نجد ــ على سبيل المثال ــ إعلان إجراءات تنصيب الملك الجديد على العرش لم تتغير منذ تأسيس المملكة، لم يُكتَف ببث إجراءات التنصيب فى المنصات الإعلامية المتنوعة المباشرة، ولكن تمسكوا بما كان يحدث فى القرن الثامن عشر بأن يتم إعلام الشعب بالوسائل التقليدية فى عموم البلاد (إنجلترا وإسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية)، وفى ميادين كثيرة فى العاصمة لندن!
أبهرت المملكة العالم بالتزامها بالتقاليد والبروتوكولات، ونالت احترام الجميع، ولعل فى هذا درسا لنا وللآخرين، لربما يستفيد منه من يريدون هدم مقابر أثرية بدعوى التجديد مثل محاولة هدم مقبرة عميد الأدب العربى طه حسين، أو هدم مبنى «ماسبيرو» الشاهد على القوة الناعمة لمصر الحديثة فى كل ربوع العالم العربى وجميع أنحاء القارة الأفريقية، فمن المؤكد أن مَن ليس له قديم ليس له حتما جديد!
• • •
لا نستطيع أن نختم هذا المقال قبل أن نتطرق للملك الجديد شارلز الثالث، فهو الشيخ فى السن، يبلغ ثلاثة وسبعين عاما، والشاب فى فكره، لا شك أن المشكلات التى قابلته فى حياته الخاصة جعلته يفكر ويبحث فى الثقافات والحضارات والأديان الأخرى، فمسألة الطلاق والزواج الثانى أمران ممنوعان فى الديانة المسيحية، وهذا سبب له وللعائلة الملكية إزعاج كبير كادت تحرمه من ولاية العهد لولا أنه بروتستانتينيا، بينما هما أمران مسموح بهما فى الإسلام، وقد أبدى إعجابه بهذا، ولعل المعارضين لدينا يتنبهون إلى أن الحل الوحيد فى أى أمر من أمور الدنيا هو قِصَر فى النظر وضيق فى الأفق (Narrowــminded)، ومن هنا تَبَحَر تشارلز فى العقائد الأخرى، وكانت النتيجة أنه طالب بتغير القَسَم الكنسى الذى أقسم به بالفعل من «المحافظة على العقيدة» إلى «المحافظة على الإيمان» لكل العقائد، وكان له دور هام فى بلاده لمحاربة الإسلاموفوبيا!
ولهذا كانت زياراته متعددة للبلاد صاحبة العقائد المختلفة، ومنها مصر التى زارها ثلاث مرات، وأبدى إعحابه بها وبحضارتها، وفى كل مرة، زار الأزهر الشريف، وقابل فيها فضيلة شيخ الأزهر، وردد المثل القائل: «من يشرب مياه النيل يعود إليها مرة أخرى»!
وأخيرا للإجابة على السؤال المطروح فى عنوان المقال: «بريطانيا.. ملكية أم جمهورية؟»، لقد أُثير هذا الموضوع فى أوساط كثيرة وأوقات عديدة بين أبناء الشعب البريطانى ــ كما سبق الذكر ــ فنحن نرى أن أغلبية الشعب البريطانى تتمسك وتعتز كثيرا بتقاليدها القديمة، ومن الصعب التنازل عنها!

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات