فى عام 2009، نشرت سامية محرز، الأستاذة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، دراسة عنوانها الرئيسى «من الحارة إلى العمارة» From the hara to the imara: Emerging urban metaphors on contemporary Cairo.
هذه الدراسة، المنشورة فى كتاب مُحرر بعنوان «القاهرة المدينة المُتنازع عليها» Cairo Contested ، تحرير ديان سينجرمان، صادر عن AUC Press، تناقش تطور أماكن أحداث الرواية المصرية من الحارة، كما نرى فى روايات نجيب محفوظ الفلسفية مثل أولاد حارتنا والاجتماعية مثل زقاق المدق، إلى العمارة، كما نجد فى روايات من أشهرها عمارة يعقوبيان لعلاء الأسوانى.
ترى الدراسة أن هذا التحول من الحارة إلى العمارة هو انعكاس لنظرة عن تفكك المجتمع وأطر السلطة فيه.
فى روايات نجيب محفوظ، على سبيل المثال، ورغم ما يعترى الحارة فى كثير منها من أوجه للظلم أو الفوضى الأخلاقية، فهى تحظى ببنية مجتمعية متماسكة. نجد مثلا مراكز للسلطة بأنواعها، مثل ناظر الوقف وكبير الفتوات ورجال الدين، ثم التجار وأصحاب رأس المال، يليهم العامة المغلوبون على أمرهم، ونماذج اجتماعية شتى تلتقى حيواتهم ومصائرهم فى إطار الحارة.
أما العمارة فهى فى كثير من الأحيان مفككة، لا يكاد السكان يعرفون بعضهم البعض، ولا توجد سلطة أو أعراف تجمعهم. وربما لاحظ هذا التفكك وعدم الترابط بعض من قرأوا رواية «عمارة يعقوبيان»، أو شاهدوا الفيلم أو المسلسل. ورغم أننى غير متخصص فى النقد الأدبى، فقد رأيت أن هذا الاهتراء ربما يكون تعبيرا عن حالة من العشوائية التى استشرت أو أصبحت أكثر وضوحا فى المجتمع المصرى.
• • •
ربما تأتى مرحلة «الكمبوند» تالية للحارة والعمارة فى اهتمام الرواية والسينما والمسلسلات المصرية، بعد أن شغلت تفكير عدد من الباحثين الاجتماعيين بما تعبر عنه من تغييرات اجتماعية، وأطلق عليها البعض مصطلح gated communities، أو المجتمعات المُسورة، أى المحاطة بأسوار، كتعبير عن انعزالها وتفردها عن باقى مناطق المدينة.
رأينا بالفعل ظهورا للكمبوند فى عدد من المسلسلات والأفلام، وكان فى الغالب ظهورا عابرا، كما فى فيلم «صرخة نملة» فى حديث المهمشين وزيارتهم لـ«القطامية هايص»، كما شاهدناها بشكل عابر أيضا فى أفلام مثل «الخلية» حيث يسكن أحد أبطال الشرطة الذى استشهد فى عملية مداهمة لوكر خلية إرهابية، فى تعبير عن أن قيم الفداء والوطنية تشمل جميع أبناء الوطن بصرف النظر عن أية اعتبارات طبقية.
كما يعرف الكثيرون رواية «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق، التى رأت فى انعزال صفوة المجتمع خلف أسوار «كمبوند» يوتوبيا، وتهميش الآخرين، نهاية لدور الدولة كما نعرفه، وما يصاحب هذا من انهيار اجتماعى وأخلاقى. هذه الرؤية التى تبدو سوداوية هى من قبيل المألوف فيما يعرف بأدب الديستوبيا، الذى يتخيل الحياة بعد انهيار النظم الحديثة التى نعرفها ونشأنها فيها.
وطبعًا لا يفوتنا الإشارة إلى صور وأحداث فى الكمبوندات تغمر شاشات التليفزيون خاصة فى إعلانات ومسلسلات شهر رمضان.
• • •
ربما تعود قلة الأعمال التى تدور أحداثها بالكامل فى «الكمبوند» إلى محدودية سكانه، فالغالبية العظمى من المصريين لا تعيش فى هذه المجتمعات المُسوّرة.
أو ربما تعود إلى غياب التنوع فى بعض هذه المجتمعات، وليس كلها، ما ينزع عنها الخصوبة التى يحتاجها العمل الفنى لإثراء الأحداث وإثارة الخيال، وهو ما جاء على لسان واحدة من السكان فى إعلان تليفزيونى أثار كثيرًا من السخرية بقولها: «الناس كلها شبه بعض!».
• • •
من منظور دراسات الإدارة والسياسات العامة، أرى أن الحارة، المتماسكة فى بنائها الاجتماعى، والعمارة والكمبوند فيها الكثير مما ينبغى أن يثير فضول الباحثين. والصورة ليست بالضرورة قاتمة.
أعرف سكان كمبوندات خاضوا معارك قضائية للسيطرة على أموال وديعة الصيانة بعد أن رأوا أن المطور العقارى أساء استخدامها فى تحسين الخدمات التى يحصل عليها السكان، وقاموا بتنظيم أنفسهم ديمقراطيا لإدارة مواردهم.
كما أعرف أشخاصًا تأثروا بتجربة الكمبوندات، وتعاونوا مع جيرانهم فى العمارات المجاورة لإحاطة مجموعة العمارات التى يعيشون فيها بسور، والتعاقد مع شركات صغيرة للأمن والنظافة.
يعيدنا هذا إلى ذكريات الطفولة حين يتعاون سكان الحارة أو الشارع من الأطفال والشباب فى عمل مجسم لجامع أو أكثر وتعليق الزينات بين العمارات المتقابلة احتفالاً بشهر رمضان.
فى أدبيات الإدارة والسياسات العامة، يُمكن اعتبار هذا التعاون فى الحارات وبين سكان العمارات والمجتمعات المسورة الصغيرة نوعًا من «الحوكمة متعددة الأطراف» polycentric governance، وهو مصطلح يفرق بين الحكومة كمؤسسة رسمية من جهة، والحوكمة كعملية يشارك فيها عدة أطراف إلى جانب الحكومة من أفراد وجمعيات أهلية وقطاع خاص.
أهم ما يميز الحوكمة متعددة الأطراف أنها تعتمد على التعاون التطوعى بين أفراد ومؤسسات يربطهم الإحساس بالمصلحة المشتركة والرغبة فى التعاون لتوفير خدمات عامة تحتاج لتضافر جهودهم، أى أن هذا النظام لا يحتاج إلى سلطة سياسية تلزم الأفراد بالتعاون واحترام القواعد التى تم التوافق عليها، فالتعاون هنا طوعى نابع من الإحساس بأنه سيعود بالنفع على الجميع.
أرى أن هذا النوع من التنظيم من شأنه أن ينتج قيادات مجتمعية قادرة على إحداث توافق بين مكونات مجتمعاتها المحلية لرفع مستوى الخدمات المحلية، مثل خدمات النظافة والأمن والصيانة.
هذه القيادات، حال تمكينها، ستكون قادرة على رفع مستوى العمل العام والسياسة فى مصر. منذ عام 2011، تم حل المجالس الشعبية المحلية، وماتزال المناقشات دائرة حول قانون المجالس الشعبية المحلية، ونظامها الانتخابى، إلخ. والفراغ الناشئ عن غياب المجالس الشعبية المحلية لم يتم ملؤه، وهو الضامن لحسن الإنفاق والرقابة على المال العام.
لذا أرى فى تجارب العمارات والكمبوندات ما يستحق الدراسة للاستفادة منه فى تشجيع المشاركة الشعبية، وتشكيل قيادات مجتمعية وسياسية من أسفل إلى أعلى grassroots. وبهذا يمكن إحداث تغيير عملى دون تخريب أو حاجة لترهيب.
أليس فى النشاط المحلى لتنظيم الخدمات العامة، فى ظل غياب أو ضعف أدوار الحكومات المحلية والمركزية والأحزاب والنقابات، ما يعطى أملاً فى تشجيع العمل العام؟
من المتوقع أن يكون بعض هذه القيادات المجتمعية على الأقل غير مسيّس، وهو ليس عيبا فى حد ذاته، فالقدرة التنظيمية والوعى بالقضايا ذات الأولوية للمواطنين والمواطنات والقدرة على التعامل معها ستكون عوامل حاسمة فى حسن إدارة شئون المجتمعات.
لذا سيكون من المفيد أن تشجع الدولة هذا التنظيم الذاتى فى المجتمعات السكنية الجديدة التى أنشأتها، مثل الأسمرات، وهو ما سيدعم حسن إدارة الموارد المتاحة لهذه المجتمعات على المدى البعيد.
• • •
كلمة أخيرة، الجانب المظلم فى تنامى ظهور الكمبوندات وغيرها من صور التنظيمات المجتمعية المشابهة هو تراجع أو غياب دور الدولة. فالأساس أن المواطنين والمواطنات ليسوا فى حاجة للحياة خلف أسوار للتمتع بحقوقهم فى الأمن والنظافة ومساحات خضراء، فهذه الخدمات العامة الأساسية، وغيرها، هى المبرر الأساسى لدفع الضرائب.
ندفع رسوم النظافة على فواتير الكهرباء، ونشاهد أكوام القمامة فى الشوارع، والنباشون يصطادون منها ما يمكن الاستفادة منه مادياً، ويتركون الباقى فى قارعة الطريق.
أخبرنى أحد كبار السن أنه أقلع عن الذهاب إلى صلاة الفجر فى الجامع تحسبا من صحوات مفاجئة من الكلاب الضالة التى صارت نسبتها فى شوارعنا فى حدود كلب لكل ثمانية مواطنين.
وفى كمبوند فاخر، توفى أحد السكان متأثرًا بعقر كلب الجيران الشرس، المملوك لمدير إنتاج وزوجته مقدمة أحد برامج الطبخ. أعرف موظفا عاما وصل لمناصب عليا فى حياته المهنية، ومازال يثرى ساحات الفكر والعمل العام إلى الآن، اشترى عقب تقاعده فيلا فى كمبوند راق، ثم فوجئ بجارته تضيف دورا إلى فيلتها الملاصقة له بحيث صارت كاشفة لحديقة منزله بالكامل، وتمكنت الجارة بعلاقاتها الأكثر تشعبا من فرض واقعها القبيح. والأمثلة لا تنتهى.
بالمختصر، إن تشجيع التنظيم الذاتى للمجتمعات دون المحلية وتفعيله يجب أن يتوازى مع تفعيل المؤسسات الرسمية المحلية والمركزية، ولن تتمكن أية أسوار مهما علت من حماية المواطنين والمواطنات دون تواجد قنوات رسمية لحماية الحقوق وضمان الحفاظ على المال العام والرقابة على القطاع الخاص وغيره من المؤسسات المتعاقدة مع الدولة، وهذ الدور سيتكامل ويحمى ما تقوم به التنظيمات المجتمعية المحلية.