حكامنا وعلاقتهم المعقدة بالرأى العام - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكامنا وعلاقتهم المعقدة بالرأى العام

نشر فى : الأحد 23 يوليه 2017 - 8:45 م | آخر تحديث : الأحد 23 يوليه 2017 - 8:45 م

ينفرد نظام الحكم فى مصر منذ يوليو 2013 بعلاقة فريدة بالرأى العام، فإذا كان حكام مصر السابقون قد اهتموا بالرأى العام الداخلى والدولى، وأخذوه فى الاعتبار، إلى حد دفعهم أحيانا لتغيير بعض سياساتهم، إلا أن الرئيس السيسى، انتهى به الأمر إلى أن يتخذ مواقف ويتبع سياسات رأى فيها مؤيدوه الإعلاميون خصما من شعبيته، بل ومقدمة لصدام مع قطاعات مهمة من الرأى العام.
قبل أن ننتقل إلى مناقشة هذه القضية فى مصر، فمن المهم التأكيد على أنه إذا كانت كل نظم الحكم تسعى لتحقيق قدر من التوافق مع الرأى العام فى بلدها، حتى من خلال صنع هذا الرأى العام، إلا أن الانطباع السائد هو أن مثل هذا التوافق هو سمة أساسية للنظم الموصوفة بالديمقراطية، ومع ذلك يجب التأكيد على أن مثل هذا التوافق هو هدف، وليس بالضرورة حالة دائمة فى ظل أى حكومة فى هذه النظم. ولكن ماذا يشير له تاريخنا؟
درس التاريخ
العلاقة بين حكامنا والرأى العام فى مصر مختلفة بكل تأكيد عما تعرفه دول النظم الديمقراطية. قد يدهش من يملكهم الحنين إلى عهد مصر الملكية أن الرأى العام كان موضع التجاهل معظم فترة الأعوام الثمانية والعشرين التى عاشتها مصر فى العهد شبه الليبرالى. لا شك أن الرأى العام كان يميل إلى حزب الوفد، حزب الأغلبية بلا منازع خلال تلك الفترة، ولكن الملك فؤاد ومن بعده ابنه فاروق لم يمكنا هذا الحزب من أن يحكم مصر أكثر من سبع سنوات ونصف، أى إنه طوال ثلاثة أرباع هذه الفترة، كانت أحزاب الأقلية ومن ورائها الملك هى التى تحكم مصر وبصرف النظر عن توجهات الرأى العام سواء بالنسبة لسياسات هذه الأحزاب أو أشخاصها.
وعندما أصبح عبدالناصر هو حاكم مصر الأوحد من مارس 1954 حتى وفاته فى 28 سبتمبر 1970، فإن سياساته لم تكن مجرد استجابة لرغبات المواطنين، ولكنه كان يدرك أنها ستحقق مصالح هؤلاء المواطنين، ومن ثم سيؤيدها أغلبيتهم. لم يكن تأميم قناة السويس فى يوليو 1956 ولا تأميم المؤسسات الخاصة الكبرى والمتوسطة بين عامى 1961ــ 1964 تلاقيا مع مطالب جماهيرية بالسعى لهذه التحولات الكبرى، ولكن عبدالناصر كان يدرك أن الرأى العام فى غالبيته سيقف إلى جانبه لأن هذه السياسات تعود على الوطن والجماهير بالنفع، ولم يترك عبدالناصر هذه المسألة لنمو الوعى الذاتى لدى المواطنين، ولكنه اجتهد فى شرح هذه السياسات من خلال خطاباته الطويلة والمحبوبة والمؤثرة لاستخدامه لغة وخطابا يفهمه المواطنون ويتفاعلون معه، ومن خلال إعلام أشرف عليه وأداره أنصاره والمؤمنون بأفكاره. وبعد تأميم الصحف الكبرى فى 1960 أصبح جهاز الإعلام بأسره مملوكا للدولة. ومع ذلك يجب التأكيد على أن تأييد الرأى العام لعبدالناصر لم يكن نتيجة صناعة أجهزة الإعلام لهذا الرأى، ولكنه كان نتيجة تأييد عارم لسياساته وشخصه.
لكن على الرغم من ذلك كله لم تكن الأمور سلسة طول الوقت أمام جمال عبدالناصر فى تعامله مع الرأى العام. فأمام الثورة الصامتة على رفع أسعار الأرز للضعف من جانب حكومة زكريا محيى الدين فى سنة 1965، ألغى هذه القرارات، وأقال الحكومة. وأمام مظاهرات الطلبة والعمال فى فبراير 1968 المطالبة بمحاكمة حاسمة لقيادات الطيران المسئولة عن هزيمة 1967، أمر بإعادة هذه المحاكمات، ولكنه لم يكن يأبه كثيرا لانتقادات الصحافة الغربية له، فكان يعتبر هذه الانتقادات شهادة صحة على أن سياساته لا تتمشى مع مصالح الدول الغربية الاستعمارية، وتنسجم على العكس مع المصالح القومية العربية.
***
كما واجه الرئيس السادات مشاكل مع الرأى العام خلال سنوات رئاسته، فى أواخر سنة 1971 التى وعد بأن تكون سنة حسم الصراع مع الاحتلال الإسرائيلى لسيناء، وانتهى العام بدون حسم،، كما تهدد نظام حكمه بالانتفاضة الشعبية ضد إجراءات تقشفية اعتزمت الحكومة تطبيقها فى 17 يناير 1977. اعتمد السادات فى مواجهة الرأى العام أسلوبا متعدد الوسائل، يجمع بين القمع بالقبض على المعارضين والحد من حرية التعبير، وتبنى خطابا مضادا يشوه نظرة المواطنين لهم. ولكنه اضطر للتراجع عن بعض سياساته أمام غضبة الرأى العام وذلك بالعدول عن الإجراءات التقشفية فى أعقاب انتفاضة الرأى العام فى 18ــ 19 يناير 1971. وربما كان مأخوذا بتأييد الرأى العام الغربى له بعد صلحه الشهير مع إسرائيل.
أما فى حالة الرئيس الأسبق حسنى مبارك فقد كان للرأى العام دور أكبر فى سياساته الاقتصادية وإن كان دورا غير مباشر. هو شهد أحداث انتفاضة يناير 1977، فقد كان نائبا لرئيس الجمهورية، وتعرض منزله فى مصر الجديدة للقذف من جانب المتظاهرين. ولذلك تردد فى الأخذ بإجراءات اقتصادية شديدة الوطأة على المواطنين، وحتى عندما وقع اتفاقا مع كل من الصندوق والبنك الدولى فى مايو 1991 فى ظروف مواتية لمصر، فإنه ظل مترددا فى قبول مطالب الصندوق بتعويم الجنيه ورفع أسعار الطاقة، أما فى المسائل السياسية فقد اتبع نفس الأسلوب المتدرج فى الإصلاح السياسى بالسماح بقدر أوسع من حريات التعبير والتنظيم، واهتم أيضا بشرح دوافع سياسته الاقتصادية للمواطنين فى خطابين سنويين، أحدهما فى الاحتفال بعيد العمال فى مايو والثانى عند افتتاح دورة مجلس الشعب فى نوفمبر. ولكن قراءته للرأى العام فى القضايا السياسية كانت خاطئة لتصوره أن عامة المواطنين لا يهتمون إلا بلقمة العيش. وإن كان قد أظهر حساسية تجاه ما تكتب عن نظامه صحف الغرب. وعندما عرف بتكوين قيادات المعارضة برلمانا بديلا فى خريف 2010 احتجاجا على تزوير انتخابات مجلس الشعب فى أكتوبر من ذلك العام، كان رد فعله هو قولته المشهورة «خليهم يتسلوا»، وبعدها بأسابيع انطلقت ثورة يناير 2011 التى أطاحت بحكمه.
الرئيس السيسى والرأى العام:
جاء الرئيس السيسى إلى مقعد الرئاسة حاملا تجربته فى القوات المسلحة التى قضى فيها معظم سنوات حياته الدراسية والمهنية، ومتأثرا بالمناخ غير الديمقراطى الذى عاشت فيه مصر منذ ثورة 1952، وخصوصا الانفراجة المحدودة التى تمت فى عهد الرئيس حسنى مبارك وبعد ثورة يناير وأوصلت الإخوان المسلمين للسلطة، كل هذا جعله يوقن بأن النظام الديمقراطى لا يصلح لمصر على الأقل قبل مرور عقدين ونصف أو ثلاثة عقود من الزمان. ولذلك فإن نموذجه الأمثل فى التعامل مع الرأى العام هو من خلال ما يسميه «إعلام عبدالناصر» الذى ينجح فى بناء «الاصطفاف الوطنى » وقد بذل قصارى جهده لإقامة هيكل هذا النظام الإعلامى. هو لم يكتف بوجود إذاعات وقنوات تليفزيونية تابعة للدولة فى شبكة ماسبيرو، ولكن بحسب التقارير الصحفية أقامت إحدى مؤسسات الدولة شبكة تلفزيونية متعددة القنوات جرى الإنفاق عليها بسخاء، كما امتد سلطان رجال الأعمال وثيقى الصلة أو المرضى عنهم من جانب أجهزة الدولة إلى معظم القنوات التلفزيونية وبعض الصحف اليومية، واستغنى هؤلاء عن خدمات كثير من الإعلاميين ذوى التوجهات المستقلة عما يراه المراقبون الحكوميون للإعلام، وامتد إشراف المحيطين بالرئيس على جميع أجهزة الإعلام من خلال ثلاثة مجالس للإعلام تتحكم السلطة التنفيذية فى تعيين أعضائها. وتثبت خطواتها الأولى أنها أقرب إلى رقيب على الإعلام من أن تكون حراسا لحريته. ومع ذلك، وعلى عكس كل رؤساء مصر السابقين، بمن فيهم الدكتور محمد مرسى، وباستثناء المستشار عدلى منصور، فإن الرئيس السيسى لا يخاطب الرأى العام شارحا أسباب قراراته، ولا يقبل حتى على سبيل الرد على ما يقوله ناقدوه، أن يدخل فى نقاش مفتوح مع الخبراء وأهل الرأى فى مجالات السياسات العامة. ويرى أنصاره فى كل ما توصف به سياساته فى المحافل الغربية يد الإخوان المسلمين أو قطر أو أهل الشر.
ونتيجة ذلك كله، أنه كما أن هناك بونا شاسعا بين السياسات المصرية والرأى العام العالمى، هناك بون شاسع بين السياسات الداخلية والخارجية لمصر والرأى العام المحلى. لا يبدو أن الرأى العام تجاوب حسب توقعات الرئيس من دعوته للتبرع لصندوق تحيا مصر. قرابة نصف المصريين وفق استطلاع بصيرة يعتبرون جزيرتى تيران وصنافير مصريتين، وكل الهيئات القضائية المعنية رفضت تعديل قوانينها وأيدها فى ذلك قسم واسع من الرأى العام بما فى ذلك بعض أنصار الرئيس، وعلامات السخط على السياسات الاقتصادية تعم كل الطبقات من منتجين ومستهلكين، عمال وفلاحين وطبقة متوسطة. التراجع الوحيد الذى يمكن تسجيله على واحدة من حكومات الرئيس السيسى هو توقفها فى الوقت الحاضر عن محاولة غزو جزيرة الوراق لطرد عشرات الآلاف من سكانها خدمة لمشروع سياحى.
لماذا لا يكترث حكام مصر بالرأى العام إلا إذا اضطروا لذلك تحت تهديد الاستقرار السياسى. الرئيس جمال عبدالناصر كان موقنا أنه يعرف مصالح الشعب دون أن يتلقى مطالب محددة من المواطنين، والرئيس السادات كان يؤمن أنه زعيم ملهم وأنه أيضا آخر الفراعنة، والرئيس حسنى مبارك كان يقصر اهتمامات المواطنين على لقمة العيش. فهل يرى الرئيس السيسى أنه يعرف ما لا نعرف، وأننا سنفهم ونقدر سياساته بعد حين؟.
على أى حال رؤساؤنا الذين لم ينجحوا فى القراءة الصحيحة للرأى العام دفعوا الثمن. قارنوا الملايين التى خرجت تودع جمال عبدالناصر إلى مثواه الأخير، بالصمت البليغ الذى عم القاهرة بعد اغتيال السادات، وبالملايين التى خرجت تهتف بسقوط النظام فى يناير 2011.

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات