إذا لم تستطع حكومة سوريا العدل بين مواطنيها، فإن تقسيم الدولة هو الأقرب للواقع. وللأسف النهج المسيطر على مؤيدى حكومة سوريا فى وادٍ، وخطاب رئيس الحكومة فى وادٍ آخر، وكأن لكل منهما سردية من عصر مختلف. ومن ثم، توظف إسرائيل أو بالأحرى تحصد النتائج بسهولة، فى ظل مجتمع مقسم، لا توحده دولة، ولا مرجعية، ولا حتى قومية. من هذه الأحداث التى نرى فيها فشل سوريا فى تبنى استراتيجية للم شمل الوطن، مقابل نجاح إسرائيل فى توظيف استراتيجية (فرق-تسد)، فإن التفاعلات الخطرة تتصاعد فى المنطقة. والموضوع ليس الطائفة التى يتم استهدافها فى سوريا وإنما ما يسفر عن تمزيق سوريا هو الموضوع.
أول أو أهم معضلة تواجهها المنطقة الآن هى تكرار استباحة الأوطان. فلا سيادة للدول، وإنما السيادة هى ما تقره إسرائيل لدول المنطقة. فهى من تقرر أو تملى على حكومة سوريا المناطق المسموح بدخولها، وكيفية التعامل مع الأقليات. ثم العصا لمن عصى أو كما قال نتنياهو توصلنا لوقف النار فى سوريا «بالقوة لا بالطلبات». ودول العالم تشاهد وتتعرف من جديد على أهمية بلدان المنطقة وأوزانها الحقيقية فى ظل تصرفات إسرائيل، وردود الفعل تجاهها، والتى سيكون لها تبعات على مكانة دول المنطقة. وكما تستباح سيادة الدول، فإن القانون الدولى يُستباح هو الآخر ومعه الأمم المتحدة. فما معنى القانون، والمنظمات الدولية، إذا وقفت كلها عاجزة أمام تصرفات إسرائيل، وكأن الأخيرة فوق القانون.
لذلك لا نندهش إذا رأينا إسرائيل تفعل المستحيل لتهجير الفلسطينيين من غزة إن استطاعت، فهى تصرف الأنظار عن حق الشعب الفلسطينى فى «تقرير مصيره»، وتستبدل ذلك بالمصير الذى يناسبها وتفرضه بالقوة. والإبادة الجماعية هى مصير من يصمد ويقاوم. ومرة أخرى كل ذلك يجرى أمام أعين العالم الذى ينظر ليس فقط لغطرسة وجرائم إسرائيل التى تكشفت أمام حلفائها، وإنما ينظر، أيضا، لخنوع دول معظم المنطقة التى تتكشف تباعا هى الأخرى. وفى هذا السياق، فإن أقليات كثيرة تعانى من التهميش داخل مجتمعاتها تتابع المشهد وقد ترى فى إسرائيل «المخلص الجديد»، الذى يستطيع تغيير مصائر الشعوب!
• • •
هذه الأوضاع تنذر بأن التغيرات التى تجرى بالمنطقة لابد وأن تصطدم بقوة دفع مضادة لإرادة إسرائيل، التى أثبتت أنها لا تفهم إلا لغة القوة. فلو أن إسرائيل تملك القوة اللازمة «حتى بمعاونة الولايات المتحدة» لتهجير أهل غزة لفعلت، ولكنهم يتحسبون للجيش المصرى الواقف فى سيناء والذى يُفشل تحركات إسرائيل منذ بداية حرب غزة 2023 وحتى بعد إعلان الرئيس ترامب عن تأييده العلنى للتهجير. ولعل تاريخ الحروب بين مصر وإسرائيل هو الذى ساعد مصر لإدراك نوايا إسرائيل منذ بداية الحرب، لذا استبقتها وأفشلتها. ولكن يتجدد التحدى أو السؤال، كيف ستتعامل مصر مع مدينة المخيمات التى تعمل إسرائيل على إنشائها فى رفح ونقل الفلسطينيين إليها بما يمثل إعدادا ميدانيا لعملية التهجير! وفى هذا السياق نفهم تصريحات الرئيس ترامب المفاجأة حول سد النهضة والتى أدلى بها بدون مناسبة أثناء لقائه، يوم 14 يوليو، مع أمين عام حلف الناتو قائلا «إن الولايات المتحدة هى من موّلت بناء السد، (النهضة)، ثم أكد أن بلاده «ستحلّ هذه المشكلة بسرعة كبيرة». لم يوضح الرئيس ترامب مقدار هذه السرعة، وهل تشابه سرعة حل مشكلة أوكرانيا التى وعد بحلها فى 24 ساعة بعد توليه الرئاسة! الشاهد ربما أنه يربط تدفق مياه النيل بمشروع التهجير!
فى سياق متصل، نأمل أن ما استخلصته إيران من مواجهاتها الأخيرة مع إسرائيل زاد من وعيها بعدة أمور تساهم فى الدفع المضاد لاستراتيجية إسرائيل. فلا يجب أن تنتظر إيران تلقيها ضربة أولى تالية تستعد لها إسرائيل، بل يجب أن تملك زمام المبادرة! ولا يجب أن تستمع للتصريحات المتضاربة الصادرة من موسكو، والتى تارة تدعو لتخصيب اليورانيوم الإيرانى بالخارج، وتارة تنفى الإدلاء به. علما بأن المتوقع من روسيا لم يكن الوقوف مع إيران كما تقف الولايات المتحدة مع إسرائيل، ولكن إمدادها بما تحتاجه من مقاتلات السيطرة الجوية سوخوى-35، والتى كانت بوسعها وقف حالة الانكشاف التى جرت بعد انهيار منظومة الدفاع الجوى الإيرانية أمام الهجمات الجوية الإسرائيلية. ولو فعلت روسيا ذلك لواجهت إسرائيل سلاح ردع حقيقيا، يعوق خططها، كما يعوق خطط الولايات المتحدة ويعطلها عن إعادة تسليح أوكرانيا. لكن الرئيس بوتين لم يفعل ذلك، وسيحصد النتائج قريبا، حيث أمر الرئيس ترامب أثناء لقائه بأمين عام حلف الناتو بإمداد أوكرانيا بصواريخ دفاع جوى من طراز باتريوت، إضافة لصواريخ أخرى بعيدة المدى تهدد موسكو ذاتها!
• • •
نعود لسياق ما تفعله إسرائيل، وننظر ببعض الحيرة إلى نتائج سياساتها، فلو افترضنا أنها نجحت فى إخلاء السويداء ذات الغالبية الدرزية من قوات العشائر العربية المؤيدة للحكومة السورية، فماذا ستفعل فى درعا ذات الأغلبية السنية؟ ثم لو افترضنا أنها نجحت بطريقة ما فى زحزحة أهل درعا إلى شمال المحافظة، بما يعنى مد الاتصال الجغرافى بين قواتها التى تحتل كامل هضبة الجولان، وبين محافظة السويداء السورية، إضافة إلى اتصال قواتها فى الجولان مع العلويين فى الساحل السورى، ألا يضع ذلك القوات الإسرائيلية بين ثلاث قوى شيعية فى آن واحد، دروز السويداء، وعلوية الساحل، وحزب الله اللبنانى؟ ثم لننظر إلى باقى مخطط إسرائيل، فهى تخطط لإنشاء ممر برى باسم «ممر داود» بطول جنوب سوريا حتى الفرات. وبدوره طالب الشيخ حكمت الهجرى أحد أهم مشايخ الدروز، بفتح ممرات إنسانية من السويداء نحو مناطق «قسد» والأردن، ما يعنى أنه يدعو لتنفيذ مشروع «ممر داود»، ولكن هل إسرائيل ستتصل فقط بالأكراد عن طريق هذا الممر؟ ألا يصل هذا الممر كتل شيعية ضخمة من لبنان، وسوريا، بكتل مماثلة فى العراق ومن ورائها إيران؟
العبث أو الفوضى اللذين تزكيهما إسرائيل فى المنطقة ظنا منها أنها ترسم بذلك شرق أوسط جديدا، تتضح معالمهما الآن، فهى مبنية على فكرة (فرق - تسد)، مع احتفاظها بصلات مباشرة مع الطوائف و المكونات، حتى تصبح هى المركز الذى بوسعه ضبط التوازنات بين الأقليات والأغلبية فى ربوع المنطقة، فيما يشبه المايسترو الذى يرتب الأمور، ويوزع الأدوار، ويضبط الإيقاعات.
كلما زاد الظلم للأقليات نجحت مخططات إسرائيل. ولنتذكر، أن منبع الاختراق الاستخباراتى لإيران جاء من المهمشين، لذلك أعادت مئات الآلاف من المهاجرين الأفغان إلى بلادهم، بعدما بات ينظر إليهم على أنهم جواسيس لصالح إسرائيل. لكن ماذا بعد؟ ستستمر إسرائيل فى حصد النتائج طالما بقيت المنطقة متفرقة. لكن سيتوقف التقدم الإسرائيلى، حتى لو عاونتها الولايات المتحدة، والناتو معا، إذا تكاتف أهل المنطقة ضد هذه المخططات. فلا سبيل أن تنجو دولة أو قوة بمفردها!.