«أحمد صواريخ» - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 5:41 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أحمد صواريخ»

نشر فى : الخميس 23 أغسطس 2012 - 9:00 ص | آخر تحديث : الخميس 23 أغسطس 2012 - 9:00 ص

لم تكن الشوارع مزدحمة كما هى الآن، لهذا استقر المشهد فى ذاكرتى صافيا واضحا، بينما صاحبنا يشق نهر الشارع بدراجته البارقة الخافقة، واقفا «على الجادون» وكأنه دَرَّاج يقترب من خط النهاية بسرعته القصوى فى سباق محموم، لم يكن فيه غيره! وكنا على الأرصفة رائحين وغادين، بعضنا رأى نتيجته وعائد من المدرسة، وبعضنا متجه إليها ليعرف النتيجة، ولأنه كان شخصية شهيرة، فقد كنا نناديه بضحك: « على فين يابو حميد » وهو يكرر الإجابة على السؤال الذى يترجَّع على امتداد الشارع: «رايح اشوف مجموعى»، وننفجر فى الضحك، شارع كامل كان يضحك، إلا هو، فقد كان جادا تماما وهو يسرع لمعرفة مجموعه فى امتحان لم يذهب إليه أصلا!

 

اسم شهرته «أحمد صواريخ» اكتسبه بعد تصنيعه لـ«صاروخ»، أطلقه من أرض شارعهم الجانبى فى حى الحسينية، وترك أثرا تاريخيا من وقوده المحترق على واجهة بيتهم العتيق فى صورة مسار صاعد بطول أربعة طوابق من رشاش أسود على الواجهة الرمادية الفاتحة، سرعان ما تحول إلى مزار لزملاء مدرستنا والمدارس الأخرى، لمشاهدة دليل عبقرية «المخترع» الذى أطلق أول صاروخ مصرى من المنصورة، ويُقال إنه خطط لصاروخه أن يكون مخترقا للسحاب وعابرا للمدينة، لكنه لم يتجاوز سطح بيتهم وسقط على عشة دجاج أشعل بها حريقا صغيرا، خلَّف بضع دجاجات مشوية وفرار بضعة أرانب مُدخّنة وطيران بطة مشتعلة سرعان ما اختفت، ولم يُعثَر لها على أثر!

 

أحمد صواريخ الذى يستدعيه إلى ذاكرتى مشهد ذهابه المحموم لمعرفة نتيجة امتحان لم يجتزه ولم يؤده أصلا، يضىء لى مشهدا عاما يحدث فى مصر الآن، فثمة احتفال مُبالغ فيه بنتيجة امتحان تمهيدى لا يمكن أن يكون هو الامتحان الكبير الأهم لعبور مصر إلى مرحلة جديدة. وهذا الامتحان التمهيدى الذى يبالغ طرف فى الاحتفاء والاحتفال بالنجاح فيه، تنعقد له فى الطرف المواجه مندبة تندد بنتيجته وتحذر من عواقبه، بينما الامتحان الحقيقى الكبير لم ينعقد بعد، ومن ثم لم يعبره بالنجاح أو الفشل أى أحد.

 

الامتحان التمهيدى تمثل فى التغييرات التى نجح الرئيس مرسى فى إحداثها لتملك زمام السلطة، يراه مُشايعوه نهاية الأرب فى منتهى الطلب وانتصارا للدهاء والحنكة السياسيين يستحق أن تتواصل فى الاحتشاد له أفواج المحتفين فى الميادين وحناجر الخطباء على المنابر، ويراه معارضوه كارثة تنذر بظهور فرعون جديد تتجمع فى يده مطلق السلطات، وهكذا يبدو المشهد كما لو كان صراع «ألتراس» سياسى، مع محبتى وافتتانى بظاهرة شباب الألتراس الكروى سواء فى الملاعب أو فى ميادين الثورة التى كانوا جنودها الأبرياء المخلصين، المجهولين والمغدورين، لكن فى السياسة التى غايتها تدبير شئون الأمة، لا مُجرد امتلاك زمام السلطة، يبدو السلوك الألتراسى ممجوجا، فالأمر أمر وطن لاملعب كرة، يتطلب رشادة عامة، وإنصافا مُتبادَلا بين الفرقاء لصالح مجمل الأمة.

 

الامتحان الكبير أمام الرئيس مرسى ووزارته وسلطاته، أى أمام حكم الإخوان، هو امتحان التنمية أو الصعود أو النهضة، فمصر بعد عقود من حكم الفساد والإفساد، تراكمت فيها أنقاض ونفايات التخريب والمحسوبية وقصر النظر وانعدام الضمير وتشويه السوية العامة، بشكل يفوق كثيرا أزمة تراكم الزبالة فى الشوارع، والتى ما هى إلا هامش ضئيل لتلال زبالة سياسية واجتماعية واقتصادية وقيمية مطلوب التخلص منها وتنظيف حياتنا من تفاقم تفاعلاتها التحتية ومُخرَجاتها الفوقية. وهى زبالة خلَّفت أزمات فى مجالات التعليم والصحة والعدالة والغذاء والمياه والطاقة والأمن بما يجعل منها مستنقعا هائلا لغرق الأمة إن لم يتوافر، من الجميع، بعد النظر وصدق الإرادة ومسابقة الزمن فى ردم هذا المستنقع وزراعة الجديد والمفيد على مساحته المُستصلحة.

 

الامتحان كبير وخطير ومصيرى وهو المقياس الذى ينبغى أن نتحاسب عليه، ولا أظن أن من الحكمة ولا الحنكة ولا مراعاة الضمير أن يخوض هذا الامتحان منفردا طيف واحد، نترصده منتظرين فشله والشماتة فيه لإزاحته عن موقع السلطة واستبداله بما نتصور أنه أوفق، لأن فشله فى التنمية تحديدا سيعنى فشلا لكل الأمة، وهذا لن يعزز تداول السلطة ومجىء الأفضل كما يمكن أن يتصور البعض، لأن إخفاق التنمية هو توهين للأمة، وما من أمة واهنة يمتلك سوادها الأعظم، الحاسم فى الاحتكام لصناديق الاقتراع، فضيلة حرية ورشاد الاختيار، ومن ثم سيكون إخفاق التنمية منصة لقفز الأسوأ والأكثر غوغائية واحتيالا، أو خبالا، أو نِكالا، على سدة الحكم، بينما نجاحها كفيل باختيار الأفضل والأوسع أفقا والأقل تعصبا، سواء من الطيف الحاكم أو من الأطياف المُعارضة.

 

لنعارض حكم الإخوان المسلمين سياسيا وثقافيا وقيميا كما نشاء، وعندهم ما يستحق المعارضة قطعا، وهذا لا يعنى أبدا التماهى مع ابتذال وسفه العكشنة وما يماثلها، ففى قضية التنمية أو النهوض، تكون الشراكة واجبة، بالرأى، واقتراح البدائل، والدعم، والمناهضة الحضارية لأى انفراد بالرأى فى قضايا كبرى كاستراتيجيات التعليم والطاقة والاستثمار. وعلى الإخوان من الجهة الأخرى مسئولية عدم تحويل مشروع النهضة أو التنمية إلى وسيلة استقطاب سياسى أو تحشيد انتخابى، فإعمار الأرض دينياً واجبٌ إيمانى لا مشروع للتربُّح الدنيوى، وحياتيا يكاد يكون غريزة مبثوثة فى جيناتنا تستهدف صالح أولادنا وأحفادنا والأجيال القادمة، فمن يكره أن يأتى الغد على أبنائه ومصر بلد آمن، يُنتِج غذاءه الذى يغنيه عن العالمين، ويكتفى بطاقاته النظيفة، وينعم بخدمات صحية تكرم الجميع، وتعليم متطور يُخرِّج أفواجا من العقول النافعة المبدعة، فى دولة ناهضة، لن تكون بنهوضها إلا ديموقراطية حديثة وبعيدة عن التعصب حتما.

 

لقد اعترفت من قبل بأننى مهجوس بقضية تماسك «الدولة»، وهذا التماسك لن يكون متحققا ولا صامدا بغير تنمية، ومن ثم فإن دعوتى للمشاركة لا المغالبة فى مشروع التنمية أو النهوض أو النهضة، بل الإنقاذ الوطنى، هى امتداد لحرصى على مفهوم تماسك الدولة الوطنية، لا الإمارة ولا الولاية فى أية مشاريع أممية كالخلافة، لا أراها من زاوية دروس التاريخ، إلا نوعا من الإنهاك الوطنى والصدام المجانى مع الحاضر ومتغيراته. لهذا كله أتصور أن الاهتمام بمشروع التنمية أو النهوض المصرى، بل الانقاذ الوطنى، هو شأن كل مُستطيع من المصريين للإسهام فيه، وليس شأن الإخوان المسلمين وحدهم، وليس محدودا بنطاق مشروعهم للنهضة، الذى قرأت المُتاح منه فرأيته غائما فى نقطتين هما البُعد البيئى والتنمية المُستدامة، كما يفتقر إلى الالتفات لعناصر بالغة الأهمية فى أى بناء وأى تجديد، وهى الثقافة والابداع والخيال. وهل للخيال فى ذلك ضرورة؟

 

مؤكد أن للخيال فى قضية التنمية فى بلادنا ضرورة، وبأكبر مما يتصور واضعو البرامج التنموية الأكاديمية، فكمّ ونوع وهول مآزقنا ومزالقنا ومهالكنا، يتطلب خيالا طليقا وخصبا، ومبادرات ابتكارية وحلولا غير مسبوقة، وجرأة سياسية واجتماعية للحصول على الأبقى والأفضل. ففى مجال الطاقة على سبيل المثال الواضح، لن يكون المزيد من محطات توليد الكهرباء العاملة بالغاز أوالنفط إلا ترحيلا للأزمة لبضع سنين، وهدرا لعشرات المليارات سواء اقترضناها من الكرام أو اللئام أو اقتطعناها من لحمنا الحى، كما أن التفكير فى المحطات الكهرونووية، والتى لم تكف عن إغرائنا بها احتكارات الصناعات النووية العالمية الآفلة، فهى فى ظروف عشوائيتنا ومحدودية مواردنا وعدم استقرارنا الأمنى داخليا والتهديدات الأمنية الوافدة عبر الحدود، تمثل مُقامرة تتطلب لا مراجعة علمية وتقنية واقتصادية وبيئية فقط، بل أخلاقية واجتماعية أيضا.

 

وهكذا يتضح لنا أن ما نحتاجه لحل مثال واحد من أزماتنا، يتطلب الإبداع والخيال والجرأة وتجاوز الحلول التقليدية إلى الابتكارية، وهناك فيها مما أنجزه وينجزه العلم الكثير، وكان النظام الساقط يدير ظهره لها، لأنه لم يكن نظام فسدة نهَّابين فقط، بل كان نظاما فقير الخيال وخسيس الهمة قطعا. ولقد نمى لعلمى أن التبشير بالطاقة الشمسية التى نمتلك منها كنزا قطع خبره النظام السابق، كان من المكروهات نشرها فى صحيفة حكومية كبرى بإشارات سُلطوية. وآمل أن يشرق على مصر عصرٌ شمسىٌ واعد، ففى قمة السلطة الآن دكتور فى هندسة المواد كانت رسالته للماجستير فى الطاقة الشمسية، التى يحسن الالتفات الجدى إليها بدراسات جدوى اقتصادية وبيئية واجتماعية حقيقية، بعيدا عن التدليس الدولى لخصومها المُزوِّرين.

 

ويتبقى لى التنويه أن صاحبنا المسكين «أحمد صواريخ» لم يتجاوز الثانوية العامة التى كرر عدة مرات الغياب عن أداء امتحاناتها وإن ظل يكرر الذهاب بحماس لرؤية نتيجته فيها. وآخر ما عرفته من أخباره، أنه ذهب بعيدا فى جنون فصامه الخُيلائى إلى درجة تَمترُسه فى شقة ببيتهم القديم وتحويلها إلى قلعة محصنة تحصينا خطيرا، كهرب بابها ونوافذها ولغَّم محيطها، فقد كبر داخله التوهم بأن هناك مؤامرة عالمية تتربص به لتقتله بعد انتزاع أسرار اختراعاته التى يمكن أن تقلب موازين القوى فى العالم! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .