فى علبة الوعى والذاكرة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى علبة الوعى والذاكرة

نشر فى : الأربعاء 23 أغسطس 2017 - 8:35 م | آخر تحديث : الخميس 24 أغسطس 2017 - 11:36 ص

نادرا ما أقرأ روايات مصنفة ضمن فئة الخيال العلمى، إذ إننى لست من هواة تخيل ما قد يحدث، لكنى قرأت أخيرا كتابا لروائى فرنسى معاصر، تدور قصته حول تجربة علمية يقوم بها باحثون وطلاب كلية طب مرموقة ومعروفة باستباقها للاكتشافات العلمية.

تتمحور التجربة حول إمكانية نسخ وعى وذاكرة شخص ما وحفظهما فى حال توقع قرب موت ذاك الشخص بسبب المرض مثلا، على أن يتم حفظ الجسد بعد أن تفارقه الحياة ريثما يتقدم الطب، فيعالج المرض الذى فتك بالجسد ويعاد ضخ الوعى والذاكرة فيه بعد أن يتعافى. يفترض الطرح أن حفظ الوعى والذاكرة أمر ممكن، وأن الطب سوف يتمكن مع الوقت من علاج الجسد المحفوظ، لذا فالوعى ينتظر أن يتعافى الجسد حتى يعود إليه.

•••

بغض النظر عن إمكانية أن يتقدم العلم بشكل يسمح بهذا النوع من التجارب، وطبعا بعيدا عن النقاش الأخلاقى الذى يتطلبه هكذا موضوع أصلا، فقد استوقفتنى فكرة أن يتم حفظ الوعى والذاكرة، تماما كما صرنا نحفظ مستندات فى ذاكرة أجهزة الكمبيوتر أو كما نحفظ الذكريات فى ألبومات الصور. استوقفتنى الفكرة لأننى كثيرا ما صرت أنتبه إلى أننى، وفى لحظات تحمل شحنات عاطفية عالية، أتساءل لو أن باستطاعتى أن أحفظ تلك العواطف كما هى، أن أجمدها فأعود إليها فى لحظات الحزن أو الضعف أو حتى فى لحظات الشك. هل يمكن حفظ نظرة ابنتى حين تستيقظ وتحرك رأسها لتستكشف ما حولها، فيضىء وجهها كزهرة عباد الشمس حين ترانى قربها؟ هل سأتذكر بعد سنوات رائحة ابنى حين اسأله عما يأكله، فيصمت وأنا أشم رائحة الشقاوة والشيكولاتة؟ هل من الممكن أن أستعيد ذلك الحنين الذى اجتاحنى من رأسى حتى أخمص قدمى وأنا أرى ابنى الكبير يسأل والدى عن معادلة الحساب تماما كما فعلت أنا منذ عقود ثلاثة؟ 

•••

يقال إن النسيان نعمة تزيح عن الإنسان كثيرا من الحزن، لكننى وفى هذه المرحلة من عمرى وعمر أولادى وعمر والدى أتمنى أن أنسخ تفاصيل يومية وأخزنها فى علبة تحفظ الألوان والأصوات والروائح. أنا لا أتمنى أن أعيش حتى المائة عام، ولا أتمنى أن يتم اكتشاف إكسير الحياة. لكننى أعرف أننى، ومع كل قدرتى عموما على التعبير بدقة عما أشعر به أو ما مررت به، لن أعرف كيف أنقل بالصوت والصورة شعورى فى مساء يوم عادى من أيام الأسبوع، حين أجهز أولادى الثلاثة للنوم، فيستحمون ويلبسون لباس النوم، ثم يجلسون حولى بينما أقرأ كتابا أو أستعد لعملى فى اليوم التالى. هو مساء عادى، لا تفاصيل استثنائية فيه، فهو مساء كمساءات أية أسرة عادية، فى يوم وسط أى أسبوع دراسى لم يحمل معه أحداثا غير طبيعية. 

هذا هو إذا ما أريد حفظه: اليوم العادى فى أسبوع غير استثنائى فى أحداثه، حين تجتمع العائلة فى غرفة الجلوس ويظهر الجد والجدة أيضا فى الصورة. هذا يأكل عشاءه، والصغيرة تحاول إقناع الجد أن يعطيها بعض الحلوى، الجدة تعلق على حدث، والطفل الثانى يتذمر من موقعه بين الأبناء، فالجميع يعلم أن الثانى يختنق بين الأول والثالث فى كل عائلة.

•••

لا شىء استثنائيا سوى إدراكى أنْ كم هو نادر أن يمر يوم عادى بوجباته الثلاثة وبدوام العمل والمدرسة، كم هو استثنائى أن يجتمع أفراد عائلة حول مائدة العشاء فى آخر اليوم، كم هو استثنائى أن يجلس الجد والجدة مع أحفادهم، وينشغل الأب بكتابة مقال بينما تنهر الأم ابنتها الصغيرة التى تسحب الحلوى واحدة بعد أخرى من الجد. هى لحظات لا تثمن، لحظات نادرة فى كمية التفاصيل التى يمكن تسجيلها، من أغنية يرددها الجد مع آخر العنقود قبل النوم، إلى رائحة الفطيرة التى خبزتها الجدة وأكلها الأطفال فى المساء. كيف أحفظ ذلك الشعور بالرضا من كرم الحياة فى يوم استثنائى فى رتابته، يوم لم يأت بمنغصات، يوم لن يكتب عنه فى رواية من الخيال العلمى لأن لا أحداث هزته؟

•••

حين أجلس مع طفلتى فى السرير حتى تنام، أعرف تماما أنها تحاول سرقة الوقت ولو لدقائق معدودة تمضيها معى. هى تشرح لى، برأسها وهى تميله وتسنده إلى كتفيها المضمومين أمام أفراد الأسرة الباقين، أنها مستعدة للنوم، فأذهب معها إلى الغرفة لتفاجئنى بمحاولتها ألا تنام. فهمت، بعد أن لعبت اللعبة نفسها عدة مرات، أنها اختارت وقت النوم لتمضى معى دقائق خاصة بعيدا عن إخوتها، أولادى، مستحوذة بذلك على انتباهى وعلى حضنى. كيف أحفظ هذه اللحظة وأعود إليها بعد سنوات، ربما فى مرحلة من عمر ابنتى قد يطغى على علاقتنا فيها فتور غالبا ما يأتى مع المراهقة، أو قد ينتج عن عدم رضا إحدانا عن مواقف الأخرى؟

•••

فى علبتى أضع نظرات عينى أمى الرماديتين وصوت أبى العميق، أضع نظرة زوجى حين يتنازل قليلا حتى أسكت. فى حافظة الذاكرة أضع أيضا كلمات ابنتى التى أخمن معناها فهى لا تتكلم بعد، وأزيد عليها الطريقة التى يضغط فيها الولدان، أى طفلاى الأول والثانى، على يدى حين نمشى فى الشارع، إذ إننا اخترعنا شفرة لا يراها الغير، وهى أن نضغط على يد نمسكها فى إشارة إلى «أنا أحبك». يضغط ابنى على يدى ونحن نعبر الشارع، فيكاد قلبى أن يخرج من مكانه من شدة حبى له. علبة الذاكرة خاصتى جاهزة للتحميل والحفظ، جاهزة كى أعود إليها فى سنوات قادمة.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات