«من قاعات الدراسة».. الإسلام والعنف - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«من قاعات الدراسة».. الإسلام والعنف

نشر فى : السبت 24 سبتمبر 2016 - 9:05 م | آخر تحديث : السبت 24 سبتمبر 2016 - 9:05 م
ليس الموضوع جديدا، ولكن من تناوله بالشرح والتحليل هذه المرة ليسوا مجموعة من الأكاديميين العرب أو الأجانب، ليسوا مستشرقين ولا مستغربين، ولا من مشاهير الإعلام أو السياسة، هم مجموعة من الطلبة فى جامعة دنفر تتراوح أعمارهم بين الـ١٨ والـ٢٢، معظمهم من الأمريكيين ومعهم بعض الطلاب الأجانب (طالبين عربيين مسلمين، وطالبين آسيويين أحدهما من أسرة مسلمة).

كانت محاضرات الأسبوع الأول الافتتاحى للفصل الخريفى، عنوان المادة التدريسية هو «مقدمة عن الإسلام والشرق الأوسط»، قررت أن يكون الأسبوع الأول نقاشا عاما خاليا من أى قراءات مسبقة بحيث أتمكن من قياس التحول فى التوجهات تأثرا بالمادة العلمية قبل بداية الفصل الدراسى وبعد نهايته لأتمكن من تقييم بسيط لقدرة المادة العلمية وطريقة التدريس على التأثير، وهى متعة لا يعرفها إلا من انخرط فى التدريس الجامعى ويعتبره رسالة وفلسفة لا مجرد وظيفة.

كان السؤال الافتتاحى للنقاش الحر بعد تقسيم الطلاب (نحو ٣٠ طالبا) إلى ٦ مجموعات نقاشية هو هل تعتقد أن الإسلام دين عنيف؟ ثم كان السؤال الثانى هل تعتقد أن من يدين بهذا الدين ــ أى الإسلام ــ أكثر ميلا للعنف من غيره؟

على مدى نحو ساعة وأربعين دقيقة دار جدل أريد أن أنقل هنا بعض ملامحه لأنى قد رأيت أنه يعبر عن طريقة تفكير أكثر تعقيدا من قدرة طلاب فى هذه السن على طرح أفكار متشابكة تتحاشى التبسيط المخل والأفكار ذات الاتجاه الواحد «الإسلام دين إرهابى» أو«الإسلام دين سلام ومحبة»، وهو فى تقديرى ما يفتقده عدد كبير من النخب العربية والغربية التى تميل دائما إلى الإجابات المطلقة ذات الاتجاه الواحد وهو فى رأيى بداية طريق الجهل والتعصب وصولا إلى الشمولية.

***

بداية فقد مال بعض الطلاب إلى اتباع بعض الأساليب المنهاجية فى التفكير، فقد قام تقريبا طالب واحد من بين كل أربعة طلاب بتعميم النقاش دون أن أطلب منه ذلك، فقد مال بعض الطلبة والطالبات إلى جر النقاش من جدلية «الإسلام والعنف» إلى جدلية «الأديان والعنف». وقد انقسموا فى ذلك فريقين: يرى الأول أن سرديات الأديان الإبراهيمية تحديدا (اليهودية، المسيحية، والإسلام) قد جرت فى عصور أقل تحضرا بمعطيات العصر الحديث فى أجواء إمبراطورية خالصة، ومن هنا فالنصوص المقدسة تميل بشكل عام لتشجيع العنف من أجل السيطرة والإخضاع وقد كان هذا من طبيعة العصر. وبين فريق آخر رأى أن الأديان بشكل عام تدعو إلى التسامح، ولكن البيئة الاجتماعية التى تنشأ بها وتتطور فيها هى التى تعطى تفسيرات عنيفة أو سلمية، وأنه يجب التفرقة بين الدين كشعائر وبين الدين كمصدر للشرعية السياسية والاجتماعية، فالدور الأول للدين بطبيعته سلمى لأنه يتعلق بعلاقة الإنسان بالإله، بينما هو فى الحالة الثانية يميل إلى العنف لأنه يتعلق مرة أخرى بمصادر القوة والنفوذ والتأثير.

كذلك فقد مال طالبان من بين كل أربعة إلى ممارسة النقد الذاتى (نقد الحضارة الغربية المسيحية قبل نقد الحضارة الإسلامية أو العربية). فى هذا الإطار فقد أعطى الطلاب والطالبات أمثلة لآيات عنيفة فى الإنجيل، أو لممارسات الكنيسة فى أوروبا والأمريكتين الجنوبية والشمالية قبل التحول الديمقراطى، أو للعنف المعاصر فى المجتمعات الغربية. وفيما يتعلق بهذا العنف المعاصر، فقد رأى بعض الطلاب أن هناك حوادث عنف كثيرة وتحديدا فى الولايات المتحدة يرتكبها غير مسلمين أيضا ولكن يتم التعامل معهم بوصفهم «مجرمين» لا بوصفهم «مسيحيين أو يهودا..إلخ»، فى حين أنه لو كان صاحب الجريمة مسلما، فإن «إسلامه» هو ما يتم التركيز عليه فى وسائل الإعلام. بل أن بعض هذه الحوادث، وإحداها قد جرت فى مدينة لا تبعد كثيرا عن مقر الجامعة هنا، يجرى لأسباب ودوافع دينية، كالهجوم على مقار مراكز الإجهاض وتنظيم النسل.. إلخ، ورغم ذلك فلا يتم التركيز كثيرا على هذه الدوافع الدينية ولكن يتم عوضا عن ذلك التركيز على الحالة النفسية والعقلية لمرتكب الجريمة.

***

لكن هل يعنى هذا أن نردد العبارة البسيطة «الإسلام برىء من العنف والإرهاب»؟ كان رأى عدد من الطلاب أيضا أنه وبكل تأكيد هناك جرائم عنف يرتكبها بعض المسلمين بدوافع وتبريرات وشعارات دينية ولا يمكن إنكار ذلك، بل إن إحدى الطالبات قد قالت إنها لم تقرأ القرآن فى حياتها ولكنها تشعر أن المسلمين الذين يتحدثون فى مقاطع فيديو جهادية قادمون من عصر آخر وأنها تخشى منهم، ولكنهم قاموا بربط هذه الحوادث بإطار سياسى واجتماعى واقتصادى أوسع للتحليل، لا لتبرير العنف والإرهاب ولكن لتحليل أسبابه الحقيقية بعيدا عن المفاهيم المطلقة للخير والشر. ففضلا عن التفسيرات الدينية والتى تعد دافعا مباشرا لعنف وإرهاب بعض المسلمين، فإن القوى الغربية تساهم أيضا فى توفير بيئة عنيفة إن لم تؤدِ إلى إنتاج هذا العنف فهى على الأقل تساعد على استدامته، وقد تجادل الطلاب بين مؤيد ومعارض حول أربع نقاط تحديدا فى هذا الإطار:

الأولى: قيام عدة قوى غربية بدعم النظم القمعية فى الدول الإسلامية والشرق الأوسطية لأهداف متعددة منها تأمين الوصول إلى بعض الموارد الاستراتيجية مثل البترول الخام. هذه النظم القمعية هى أحد أهم أسباب استمرار الإرهاب والعنف لأن استمرار الأخير هو أحد أوجه شرعية استمرار هذه النظم فى الحكم. بل أنه وفى بعض الأحيان وصل الأمر إلى تشجيع الانقلاب على النظم الديمقراطية من أجل تعضيد قنوات الوصول إلى هذه الموارد ومنها مثلا دور المخابرات البريطانية والأمريكية فى الانقلاب على نظام مصدق فى إيران ودعم الشاه.

الثانية: تورط بعض النظم الغربية فى دعم الجماعات العنيفة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، ومنها مثلا دور الولايات المتحدة بالتعاون مع عدة نظم عربية وإسلامية فى تدعيم المجاهدين الأفغان فى الحرب ضد السوفيت وهو ما أنتج بعد ذلك شبكات وأجيالا من الإرهابيين عادت الولايات المتحدة لتعلن الحرب عليهم بعد عقدين من الزمان!

الثالثة: أن استمرار القضية الفلسطينية بلا حلول لقرابة سبعة عقود مع انحياز الأطراف الغربية للمفهوم الإسرائيلى عن السلام قد أدى إلى استمرار واحد من أهم أسباب العنف وعدم الاستقرار السياسى فى العالم العربى تحديدا.

الرابعة: أن التدخلات العسكرية الغربية فى بعض مناطق العالم الإسلامى (العراق وأفغانستان نموذجا) ليست فقط أنها فشلت فى تحقيق أهدافها المعلنة «الحرب على الإرهاب»، ولكنها أيضا ساهمت فى قتل الأبرياء من المدنيين دون حساب يذكر وساعدت أكثر على تعضيد الانقسام بين الطوائف المحلية، ومن ثم فقد ساهمت أكبر فى دعم عدم الاستقرار السياسى ومن ثم العنف والإرهاب كردود فعل منطقية ومتوقعة.

كانت خاتمة النقاش أنه لا يمكن رسم علاقات بسيطة بين الإسلام والعنف والإرهاب ولا بالسلام والمحبة، وأن الأمر كله لابد من تحليله فى إطار سياسى وثقافى أكبر.

***

يتبقى لى هنا أربع ملاحظات ختامية:

الأولى: أن الهدف من هذا الطرح وهو ــ كما قلت ــ ليس جديدا ولا فريدا، ليس تبرئة المسلمين من العنف أو الحض عليه، فهناك الكثير مما يمكن قوله عن تسييس الدين ودفعه لكى يكون مجرد أداة سلطوية فى يد «أولى الأمر». كما أن هناك الكثير الذى يمكن قوله عن التمسك بتفسيرات قديمة للنص المقدس خارج أى إطار للعقلانية أو الرشادة يحض على كره الآخر وعدم احترام الحقوق والحريات لغير المسلمين بل والدعوة أحيانا إلى قتلهم أو سبيهم تحت دعاوى مختلفة، ولكن الهدف هو وضع ظاهرة العنف المرتبط ببعض الجماعات الإسلامية فى إطار أوسع للتفسير والفهم كما أوضحت وكما رأَى الطلاب سالفا.

الثانية: أنه وبغض النظر عن أننا نتفق أو نختلف مع هذه الجدليات، إلا أن ما يعنينى هنا طريقة الطرح من طلاب فى مقتبل العمر لا يعرفون فى معظمهم الكثير عن الإسلام أو المسلمين سوى ما يتناقله الإعلام. هذه الطريقة المعقدة فى التفكير هى التى تحدث عادة الفرق الحضارى بين الدول. المجتمع الأمريكى فى مجمله ما زال بعيدا عن هذا التعقيد فى التفكير، بل إن بعض النخب الأمريكية ومعها جمهور كبير محافظ لا تختلف كثيرا عن بعض نخبنا وجماهيرنا أصحاب نظريات أهل الخير والشر، ولكن هؤلاء الطلاب يثبتون أن التعليم الحر المستقل هو إحدى أهم دعائم التفكير الرشيد العقلانى ومن ثم التغير الثقافى والحضارى الذى يساعد على تغير فى مجمل المنتجات المعرفية والتكنولوجية والمادية التى تصنع الفوارق الحضارية بين الدول بعيدا عن نظريات المؤامرة العقيمة.

الثالثة: أن الفارق بين الطلاب الجامعيين المصريين ونظرائهم فى الغرب على مستوى العقلية النقدية والإبداعية ليس كبيرا، ولكنه فارق محدود يمكن عَزْوُه لبعض الفروق المادية والثقافية، ولكن المشكلة عادة أن الطلاب المصريين فى نفس سن نظرائهم الغربيين يتعرضون لضغوط مجتمعية وأخرى تتعلق بالمنظومة التعليمية ودرجه استقلالها مما يكبح جماح طاقتهم الإبداعية عادة ولا يسمح لها بالظهور كثيرا.

الرابعة والأخيرة: أنه لا حرب ضد الإرهاب إلا بتغييرات فى منظومة وهياكل المؤسسات الدينية فى العالم العربى والإسلامى، وهذه التغيرات مرتبطة بدورها بتغيرات أكبر فى البيئة السياسية. فلا يمكن لنظم قمعية شمولية أن تدعى أو تعتقد أنه بإمكانها أن تحارب الإرهاب والعنف لأنها ببساطة أحد أهم أسباب استمرار هذا الإرهاب والعنف! كما أن بعض النخب التى تدعى الليبرالية والعلمانية والتحرر والتحضر ما لم توقف دعمها وانحيازاتها الساذجة للقادة الشموليين القمعيين باعتبارهم الوسيلة الوحيدة لحمايتهم وعلاجهم من فوبيا الإسلام والإسلاميين وطريقهم للتحديث المزعوم ــ فإنها لن تكون أبدا ودائما إلا مطية للقمع ودفع المجتمعات إلى مزيد من التفسخ والتحلل تحت دعاوى ساذجة غير واقعية عن الحداثة والتقدم.
أحمد عبدربه مدير برنامج التعاون الدبلوماسي الأمريكي الياباني، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.