فى اللغة الإنجليزية تعبير بليغ يقول He was consumed by hatred ــ لقد استهلكته الكراهية. الكراهية عاطفة شيطانية مدمرة تستهلك الإنسان وتملأه بالحقد والغل وتفعمه بالشك وسوء الظن. قديما قالوا إن من أجمل الدعوات «ربنا يحبب خلقه فيك»، إلا أن الدعوة الأجمل هى «ربنا يحببك فى خلقه»، فمن لا يحب لا يقدر لمحات الحب الصادرة من الغير، فإذا جاءه أحد مهنئا، ظنه حاسدا، وإذا جاءه مواسيا، ظنه شامتا، وإذا سأله عن حاله ظنه متلصصا، وإن جامله ظنه منافقا صاحب مصلحة. ويتحول الإنسان مع الوقت إلى الانطواء والشك فى الجميع وإلى السيكوباتية ويفقد القدرة على التسامح والمغفرة، وتظل الكراهية تأكل نفسه حتى إن نال من أساء له عقابا شديدا، وتمتد كراهيته لا إلى من أساء له فحسب بل إلى أى لفتة تعاطف معه مع توجه لاستدرار العطف بشكل مهين وإحاطة نفسه بشرنقة من المعاناة الزائفة؛ وهذه الظاهرة هى ظاهرة سيكولوجية تتمكن من بعض الأشخاص لكنها أيضا ظاهرة سوسيولوجية تصيب المجتمعات والشعوب.
ولعل حالة إسرائيل وشعبها حالة نموذجية Text book case لهذا المرض، فإسرائيل هى المثال الوحيد لدولة قامت وتأسست على الكراهية، واستمرت الكراهية هى العاطفة الأساسية التى تجمع شعبها. بدأ الأمر مع إسرائيل بكراهية ألمانيا، وكانت هذه الكراهية السبب الرئيسى لقيام إسرائيل بدعوى إنقاذ الشعب اليهودى من المحرقة التى أقامها النظام النازى فى ألمانيا. ورغم أنه يصعب على أى متابع منصف للتاريخ أن ينكر ما حدث فى المحرقة إلا أنه من الإنصاف وجود تحفظات بسبب أنها قصة مروية من جانب واحد تم التركيز عليها سياسيا وإعلاميا وحتى فنيا بعدد من الأفلام والأعمال الدرامية التى تناولتها وتحميها من جانب واحد، جانب المنتصر، مدعوما بالدوائر الصهيونية دون إعطاء مجرد فرصة لتفنيد القصة وأبعادها، بل تحول الأمر إلى إرهاب فكرى ممنهج.
وإن سلمنا بصحة أرقام وأبعاد المحرقة، أفلم تدفع ألمانيا ثمن جرمها بتدميرها وتقسيمها ومحاكمة كل من كانت له صلة بالحزب النازى وإعدام زعمائه وسجنهم وطرد من بقى إلى أقاصى الأرض، حتى أن «كورت فالدهايم» ــ الذى صار أمينا عاما للأمم المتحدة ورئيسا للنمسا ــ تعرض لحملة تشويه ممنهجة لأنه خدم كنفر فى جيش بلاده خلال الحرب العالمية، فضلا عن ما يقدر بمليونى ألمانية اغتصبن بعد استسلام بلادهن. كل هذا ولازال دراكولا متعطشا لامتصاص مزيد من الدماء، ولازال شايلوك ينتظر التهام رطل اللحم متغافلا عن أنه سكب أنهارا من الدم، رغم أن عقيدته تنهى عن الدم.
• • •
كان الهدف الثانى لكراهية الشعب الإسرائيلى هو الشعب الفلسطينى الذى كان كل ذنبه التمسك بأرضه وبلده ودياره وكرامته، وحتى بعد أن رضخ للقسمة الضيزى لقرار الجمعية العامة، ولما فرضته التوازنات العسكرية لحرب فلسطين. ووصلت الكراهية إلى أوجها بمذابح ضد عشرات الآلاف من النساء والأطفال والعزل، ووصف الفلسطينيين بالحيوانات البشرية، وتدشين حملة إعلامية ممنهجة شاركت فيها الدوائر الصهيونية فى الولايات المتحدة بل والرئيس الأمريكى ذاته الذى تحدث عن قطع رءوس الأطفال، ثم مطالبة وزير مسئول فى الحكومة بقصف غزة بالقنابل النووية.
أما دائرة الكراهية الثالثة التى تسبح فيها إسرائيل، فهى الدول العربية والتى عاشت عمرها تروج بكراهية وبأنهم الجيران الذين يحاصرونها بغرض تدميرها، وارتزقت من هذا الوهم بدعم غير محدود من الولايات المتحدة وحلفائها الذين حولوا أساطير التوراة لخدمة إسرائيل التى صورت داود الراعى الوديع الذى يواجه جالوت الطاغية المسلح، وجعلت من دعم إسرائيل واجبا دينيا مقدسا رغم أن ضربات إسرائيل طالت معظم الدول العربية القريبة والبعيدة.. مصر وسوريا ولبنان والعراق والسودان وتونس.
ولم تكتفِ إسرائيل باجترار الكراهية الآنية للعرب بل غاصت فى أساطير التوراة والتاريخ المزيف، يقف رئيس وزرائها أثناء زيارته لمصر أمام الأهرام ليترحم على أجداده ومعاناتهم أثناء بنائها وهم لم يدخلوا مصر إلا بعد بنائها بألفى عام، ويستعيد ذكرى الخروج من مصر فى زمن فرعون ثم ينقلب إلى ذكرى الأسر البابلى ليصبوا جام كراهيتهم على العراق والسبى الأشورى ليصبوا غضبهم على سوريا، وفى وسط سديم الكراهية الذى يحيط بها ربطت إسرائيل نفسها بأكثر الكيانات المثيرة للكراهية والعنصرية والعنف مثل النظام العنصرى الأبيض فى جنوب إفريقيا، وحركة قبائل الإيبو الانفصالية فى نيجيريا، ونظام موبوتو سيسى فى الكونغو، وفى أمريكا اللاتينية دعمت نظام بينوشيه الفاشى فى شيلى، والنظم الفاشية فى السلفادور وجواتيمالا ونيكاراجوا.
وحتى فى علاقاتها بحليفها الأكبر وحاميها الولايات المتحدة فقد استقطبت إسرائيل عناصر من الداخل جعلت منهم رقباء على الأداء، ويبتزون به الولاء مثل لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية AIPAC ومنظمة بناء بريث وغيرها من المراكز التى باتت توجه سياسة الولايات المتحدة حتى صارت العلاقة بين البلدين محكومة لصالح إسرائيل.
• • •
لعل أبرز نجاحات إسرائيل هو أنها رغم تبعيتها للولايات المتحدة استطاعت أن تكون مؤثرة قبل أن تكون متأثرة بواسطة لوبى صهيونى عابر للحدود الحزبية بين الحزبين الكبار الديمقراطى والجمهورى، بحيث تحافظ على مكانتها بصرف النظر عن الحزب الحاكم أو الرئيس الفائز فى الانتخابات، تلعب فى التوازنات من وراء الستار لخدمة مصالحها ودون أن تخسر طرفا لصالح الآخر، ولكن الأهم أن تحافظ على قوة تأثيرها السياسى وتؤكد أنه بغض النظر عن الفائز تظل هى صانعة الملوك.
ومع الوقت بدأت تذوب الفوارق ويبدأ التساؤل، هل إسرائيل هى الولاية الحادية والخمسون للولايات المتحدة أم أن الولايات المتحدة هى الضفة الغربية لا لنهر الأردن بل للمحيط الأطلسى التى تحقق إسرائيل الكبرى؟ التاريخ متشابه والميثولوجيا واحدة للاستعمار الاستيطانى الذى استولى على أرض الغير، وكانت هناك محاولات لتشبيه خروج اليهود من أوروبا هربا من البطش الألمانى بملحمة الشاعر الرومانى فيرجيل عن خروج أهل طروادة بعد أن أحرقها الإغريق واستيطانهم فى إيطاليا وإقامتهم فى روما العظيمة، وذلك للترويج للصهيونية عن طريق الكلاسيكيات التى يعشقها العرب.
تصرفات تشابه العنصرية ضد المكون الأسود فى الولايات المتحدة والتفرقة ضد كل من هو غير يهودى فى فلسطين المحتلة.. دك الخصوم بالقنابل فى غزة وفى فيتنام دون رحمة للنساء والأطفال، كتائب الاغتيالات التى نظمها السى أى إيه والتى نظمها الموساد، تاريخ أسود مشين يجمعهما وحاضر ملطخ بالعنف والدماء.
إن معركة غزة لن تحسم عسكريا على المدى القصير، فتوازنات القوة فارقة بشكل هائل لكنها حرب شاملة طويلة لها بعدها العسكرى وبعدها السياسى وبعدها القانونى وبعدها الإعلامى وبعدها العلمى والتقنى وبعدها الدينى وبعدها الإنسانى، فهى فعلا حرب شاملة بمعنى الشمول فى أوسع صوره. وعلينا كلنا كعرب ومسلمين ودول العالم الثالث وكل إنسان محب للسلام أن يجند نفسه لهذا الجهاد الطويل الذى نجح أهل غزة فى معركته الافتتاحية فى تعرية الكراهية الشريرة السوداء ونزعت الغشاء الأملس البراق الذى اختفت وراءه. وبدأ رد الفعل لدى الشعوب يظهر فى مسيرات ومظاهرات فى مدن ودول كانت تعتبر إسرائيل طفلها المدلل، ولعل هذه البداية إذا تابعناها تتحول إلى تجمع Woodstock جديد كالذى أنهى حرب فيتنام وهزم الجيش الأمريكى بكل ما لديه من قوة.
• • •
فى ظل هذه الأجواء يظل نتنياهو ثابتا متعجرفا رافضا قبول أى اتهام، أو وضع نفسه فى موقف دفاع متمسكا بأمن إسرائيل وحقها فى الدفاع عن نفسها. لعل هذا الوضع الهزلى يذكرنى بقصة قصيرة كتبها الكاتب الأمريكى Scott Fitzgerald فى عشرينيات القرن الماضى بعنوان A diamond as big as the Ritz أو ماسة فى حجم فندق الريتز، وتحكى عن ضابط أثناء الحرب الأهلية الأمريكية وأثناء قيام جنوده بالحفر لإقامة الخنادق والتحصينات اكتشفوا أن الجبل المتمركزين عليه هو عبارة عن ماسة كبيرة! تحصن الضابط بالجبل وكان بجانب العمال للعمل فى هذا المنجم الثرى، وحفاظا على السر وأمن الموقع يرفض مغادرة العمال ويحتفظ بهم سجناء، وعندما اخترعت الطائرات كان يسقط كل طائرة تطير فوقه حتى تنبهت دول العالم إلى تجاوزاته وأرسلت جيشا لهزيمته وتحرير أسراه، فدفع ثمن هوسه بالأمن وتجاوزاته فى سبيل تحقيقه.
ولقد عبرت كلمة مصر أمام محكمة العدل الدولية التى ألقتها ابنة مصر الغالية الدبلوماسية القديرة، ياسمين موسى، أبلغ تعبير عن هذه الحقائق، ولعلها تكون بداية حملة لكشف حقيقة إسرائيل ومن خلفها أمام العالم المتحضر.
لعلى فى هذه اللحظات لا أخشى قوة الجيش الإسرائيلى المسلح بأعتى أسلحة حلف شمال الأطلنطى قدر خشيتى من الواجلين الواجفين المرتعدين بيننا الذين يهلعون من خروجهم من النعيم وحرمانهم من البيتزا والهامبورجر.