عن جنس الديمقراطية التى نريد - حامد الجرف - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 1:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن جنس الديمقراطية التى نريد

نشر فى : السبت 25 يوليه 2020 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 25 يوليه 2020 - 9:10 م

ربما كان مفيدا فى أوقات الفراغ السياسى ــ وهو ما لا تعرفه الفيزيقا أصلا ــ أن نتبادل حوارا عاقلا رشيدا فى القضايا الكلية التى يثار الغبار حولها للتعمية عليها، ولصرف النظر عنها فى مناخ إماتة السياسة واستبدالها بما يشبهها.
ولعله من البديهى أن الديمقراطية ليست هى فقط العملية الانتخابية، وأن قصر مفهومها على الانتخابات هو تسطيح متعمد مثلما كان أمر الطرفة التى تروى عن انتخابات أحمد لطفى السيد أستاذ الجيل عندما أشاع عنه غريمه فيها أنه ديمقراطى فى أوساط دائرته وهى دائرة فلاحية بالأساس، مؤولا الديمقراطية على حد عبارة لطفى باشا نفسه فى قصة حياته (تأويلات بين الناخبين فيها خروج على الدين الإسلامى) وإن كان لطفى السيد قد ذكر أنه لا يعرف شيئا عن تلك الإشاعة التى قيل أنها شاعت بين الناخبين، وهذا طبيعى لأنها كانت تقوم على تأويل جارح وخادش للحياء. ولكن المؤكد أن استخدام ذلك التأويل كان صحيحا، كان ذلك فى انتخابات الجمعية التشريعية سنة 1913 ولنا أن نتصور أحوال ريف السنبلاوين فى ذلك الزمان.
كما أن البديهى أن الانتخابات لا تفضى للديمقراطية لمجرد الانحياز لأغلبية الأصوات والتى كما ذكر د. فخرو قد لا تعبر عن قاعدة الناخبين ولا عن سلوكهم السياسى، فحتى الممتنعون عن التصويت ينبغى أن تعلم دوافعهم وتقدر فى قياس مدى صحة العملية الانتخابية ومدى شرعية من انتخب لأن الامتناع فى ذاته سلوك سياسى أيضا فينبغى أن نعلم هل كان الامتناع لكون المنافسة لا تمثل أصلا توجهات الناس كالاختيار بين الكوليرا والطاعون، أم كان الامتناع عقابيا لاتجاه سياسى ما، أم كان الامتناع سلوكا حمائيا فطريا لانعدام الجدية والضمانات... إلخ.
والأهم من ذلك كله وخارج نطاق الانتخابات كإجراء، فإن الديمقراطية تعد أوسع مدى من ذلك فهى ثقافة وسلوك وانتماء واهتمام وآداب وإجراءات، وهى فى النهاية ــإذا صحتــ وعلى حد ما علمنا الفيلسوف كارل بوبر هى الأداة السلمية الوحيدة لكبح الطغيان.
***
ولكن أزمة الديمقراطية فى الغرب والتى تماهت معها مجتمعاتنا وربما سبقت الغرب فيها، فضلا عن الأدواء الهيكلية فى بنية مجتمعاتنا، هى الأخذ بديمقراطية استتمام الشكل، التى تستهوى نظمنا ولا تريد أن تبرح دائرتها، إذ أن الاستحواذ على كل مصادر القوة يخلق ثقبا أسودا كبيرا يسحق كل عمل جاد للتطور، إذ يشده بقوة جذب مغناطيسية هائلة ويلقى به فى آتونه ليختفى تماما مثلما نعلم عن الثقب الأسود الكبير فى الفضاء الكونى الممتد.
وذلك الاستحواذ هو ما يعبر عن أزمة الرأسمالية فى مرحلتها القائمة والتى تعكسها سياسات النيوليبرالية والرأسمالية المتوحشة، وهى ليست من صلب ورحم الديمقراطية ولا هى بفاعل فيها، بل إن الديمقراطية مجنى عليها فى تلك الأزمة وليست جانية إن جاز ذلك التعبير فباسمها يتم الاستحواذ ــ بعد تأويلها على نحو ما خُدع به فلاحى السنبلاوين فى أوائل القرن الماضى ــ إذ تُقزم الديمقراطية عمدا لتكون فقط هى العملية الانتخابية، وهى محض جانب إجرائى من جوانبها، وتُقزم الانتخابات فقط لتصبح مجرد النتيجة العددية لأعلى الأصوات، مع أن للعملية الانتخابية حلولا تشريعية متعددة تحترم فيها كتل الناخبين ليكون التمثيل أقرب ما يكون تطابقا مع حقيقة توجهاتهم السياسية واختياراتهم. فتكون النتيجة أن الديمقراطية قد اتخذت مطية لسياسات النيوليبرالية والرأسمالية المتوحشة لنصل إلى ذلك الزحف الشعبوى الفج فى أنظمة الحكم غير الرشيدة غربا وشرقا باسم الديمقراطية تأويلا خاطئا وتمويها متعمدا ليتم بها الاستحواذ على كل مصادر القوة والنفوذ.
***
وعلى نحو كل الحلول والأفكار العبقرية فى تاريخ الإنسانية، فلقد وضع القاضى والأديب والفيلسوف السياسى الفرنسى مونتسكيو فى كتابه روح الشرائع ومنذ عام 1748 يدنا على ذلك الحل السحرى والبسيط والبديهى معا والذى نتغافل عنه، فنظرية الفصل بين السلطات وتأسيسها الفلسفى باعتبار أن السلطة تحد السلطة، وهى التى تأخذ جميع الدساتير المعاصرة بها فى نطاق تنظيم سلطات الدول حتى ولو أخذت بينها بالقول بأن يكون الفصل فى إطار التعاون بين السلطات ــ وهو ما نراه بابا خلفيا للنيل من النظرية ولتهوين أدائها العملياتى ــ تلك النظرية صالحة فى ذاتها ليس فقط فى المجال الدستورى من حيث تركيب بنية سلطات الدولة وتنظيم علاقاتها الاستاتيكية، ولكن أيضا فى المجال السياسى من حيث تركيب البنية التحتية للديمقراطية وتفاعلاتها الديناميكية فى المجتمع ترشيدا لمساره. ينبغى علينا أن نمد خط نظرية مونتسكيو على استقامته لنبلغ محطة الفصل بين الوظائف، والفصل بين الاختصاصات، والفصل بين مصادر القوة والنفوذ ــوذلك بيت الداء فى الرأسماليات المعاصرةــ والتى استطاعت من خلاله تقويض المبدأ الديمقراطى حتى فى الغرب، فالزواج الكاثوليكى الذى يراد له أن يستمر بين السلطة والثروة ينبغى أن يفسخ، وكذلك التوحد بين منصات ووسائل وآليات الاتصال الجماهيرى، ينبغى أن ينتهى، وكذلك خروج المؤسسات الوطنية عن أدوارها الرئيسية لأدوار أخرى تتغول بها على الفضاء العام ينبغى أن يتراجع، وأن يلتزم كل بدوره، وفى نطاق التزام كل بدوره سيصبح الكل بطلا ومؤديا ولا غنى عنه فى الأداء السيمفونى الوطنى فى عمومه بل وسيصبح غيابه نشازا غير مقبول وغير إيجابى تماما مثلما يشكل الخروج عن الدور وتجاوز الحدود خطرا ينبغى التصدى له. يقولون فى تعريف السرطان أنه نمو غير مبرر وغير محدود للخلايا يؤدى إلى غزوها للأنسجة المجاورة لها وتدميرها. وكذلك بنية المؤسسات، والسلطات، والاختصاصات، والوظائف، والأدوار، لكل قوى الجماعة وعلى رأسها رءوس أموالها التى تشكل مستودع طاقتها فى كل اتجاه. فإن جرى الاستحواذ على كل مصادر القوة، أو التزاوج بين السلطة والثروة تحديدا، كما هو الحال فى شعبوية ترامب مثلا فلا عزاء للديمقراطية، ولو أجريت الانتخابات صبيحة كل يوم هنا أو هناك ولو استتمت الأشكال بالمجالس والمنصات، وبإظهار التباين بين الأدوار.
وختاما أرجو ألا يكون تعليقى وحوارى مع الدكتور على فخرو من نوع نقاش أهل بيزنطة عن جنس الملائكة، فالعدو يطرق الأبواب، ونحن منشغلون بحديث غيره، وكأننا لا نعرف ما نريد.

قاض مصرى سابق

 

حامد الجرف قاضٍ مصري سابق
التعليقات