فور الإعلان عن رحيل البابا فرنسيس فى الحادى والعشرين من الشهر الجارى عن عمر ناهز الثامنة والثمانين بعد متاعب صحية، سارع زعماء وشعوب العالم إلى نعى البابا الراحل وتقديم العزاء للفاتيكان وللكنائس الكاثوليكية حول العالم، فقد كان البابا وبحق، ليس فقط رجل دين وقيادة روحية، لكنه كان أيضًا رمزًا سياسيًا وحضاريًا مهمًا فى العالم الحديث.
تولى البابا فرنسيس المولود فى الأرجنتين عام ١٩٣٦ منصبه فى مارس من عام ٢٠١٣ ليكون أول بابا فى تاريخ الفاتيكان من خارج القارة العجوز، ما سلط الأضواء عليه لمعرفة الكيفية التى سيقود بها واحدة من أقدم المؤسسات الدينية والروحية فى العالم. خلال ١٢ عامًا من باباويته، استطاع البابا أن يبرهن بالفعل قبل القول على أنه مختلف ومميز عن كل الباباوات الذين سبقوه، ذلك لأنه قرر التعامل بمسئولية ووضوح ليس فقط مع الملفات الشائكة للكنيسة الكاثوليكية، لكن أيضًا لأنه استطاع عبر باباويته أن يتعامل باتساق يليق برجل دين مرموق مع كل القضايا السياسية والمجتمعية العالمية بشفافية وزهد كبير عبرا عن نقائه وجلب استحسان وحب الجميع من الكاثوليك وغير الكاثوليك عبر العالم.
• • •
كانت واحدة من أهم الملفات الشائكة فى تاريخ الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية هى الاتهامات التى طالت بعض القساوسة والأساقفة بالتحرش الجنسى خصوصًا بالأطفال! وعبر نحو سبعة عقود كانت توجه هذه الاتهامات بشكل مستمر للكنائس الكاثوليكية حول العالم، لكن فى معظم الأحيان لم تكن هناك محاسبة للمتهمين، حيث كانت سياسة الفاتيكان دائمًا هى عدم الاعتراف بهذه الاتهامات وعدم التعاون مع سلطات التحقيق، بل وفى بعض الأحيان فقد استخدمت الكنيسة الكاثوليكية سلطتها لإعاقة التحقيقات وخداع وسائل الإعلام.
عبر العقود، لم ييأس الضحايا أبدًا محاولين بكل الطرق جلب المسئولين عن هذه التجاوزات للعدالة، ولفت نظر الرأى العام العالمى، لكن بقليل من النجاح، وكذلك كان هناك إصرار من الفاتيكان على عدم التعاون أو تقديم القليل من التعاون الذى لم يكن كافيًا لجبر الضرر والأذى النفسى قبل الجسدى الذى لحق بالضحايا إلى أن جاء البابا فرنسيس ليتغير كل شىء!
فور أن تولى البابا منصبه الروحى الرفيع، ظهرت بوادر تغيير حقيقية لدى الفاتيكان حين قام بعد نحو عام من تنصيبه بتشكيل لجنة تابعة له مكلفًا إياها بوضع قواعد من شأنها حماية الأطفال والقُصر فى الكنائس الكاثوليكية المختلفة من الاستغلال الجنسى بكل أشكاله، وفى قرار الإنشاء اعترف البابا لأول مرة فى تاريخ الفاتيكان بهذه الانتهاكات بعد أن وردت عبارة: «اتخاذ كل الإجراءات الممكنة لمنع تكرار انتهاكات الكنيسة فى المستقبل» فى القرار، الأمر الذى لاقى ترحيبًا كبيرًا بين المهتمين بهذا الملف الشائك.
تشكلت اللجنة من أساقفة وقساوسة وبعض ضحايا هذه الانتهاكات، بالإضافة إلى متخصصين فى الدعم النفسى من المجتمع المدنى، ليكون بذلك أول طريق لانفتاح الفاتيكان على التعاون مع المجتمع المدنى فى القضية وعدم قصرها على أروقته الداخلية، فى خطوة أظهرت نية البابا فى الشفافية التامة بشأن هذه القضية.
واصل البابا فرنسيس جهوده التاريخية بشأن هذا الملف عندما اعترف للمرة الأولى فى إبريل ٢٠١٤ بمنتهى الشجاعة والمسئولية بهذه الانتهاكات طالبا الصفح والغفران من الضحايا. وفى العام التالى مباشرة وفى زيارة رعوية إلى الولايات المتحدة الأمريكية طلب البابا مقابلة ضحايا هذه الانتهاكات مقدمًا الاعتذار لهم وواعدا باتخاذ كل الإجراءات التى من شأنها منع تكرارها فى المستقبل.
ثم جاءت أهم خطوات البابا الشجاعة والمسئولة فى هذا الملف عندما أقر قانونًا كنسيًا فى عام ٢٠١٦ يتيح بعزل كل الأساقفة الذى يثبت تورطهم فى هذه الجرائم حتى ولو كان هذا التورط مقتصرًا على الإهمال أو الإنكار أو التستر عليها، وهو القانون الذى تم استخدامه لاحقًا بالفعل لعزل العديد من الأساقفة والقساوسة فى الولايات المتحدة وأوروبا وبعض دول جنوب شرق آسيا. عزز البابا هذا القانون بقانون آخر عام ٢٠١٩ ينهى سرية التحقيقات بشأن أى قضايا تخص الانتهاكات الجنسية أو الاستغلال بحق الأطفال ليتم فتح الباب لأول مرة للتعاون مع سلطات التحقيق المدنية، بل والشفافية مع وسائل الإعلام والرأى العام.
ثم وفى عام ٢٠٢١ أصدر قانونًا جديدًا لمحاسبة المتورطين فى الكنيسة وتغيير قاعدة تقليدية كان الفاتيكان يطبقها بشكل خاطئ فى الموازنة بين المسئولية والعفو، حيث كانت تتم عادة تفضيل العفو بحق المتورطين فى السابق، لكن أتاح هذا القانون ترجيح كفة المساءلة لا العفو، على أساس أن المساءلة لا تمنع الصفح، لكنها تجبر الضرر الذى وقع على الضحايا وتحول دون تكرار الانتهاكات فى المستقبل.
• • •
خلال هذه السنوات واصل البابا جهوده لمكافحة هذه الانتهاكات عن طريق الاعتذار وطلبات الصفح المتكررة التى وجهها إلى الضحايا فى أكثر من دولة شهدت هذه الانتهاكات، وكذلك نشر تقارير دورية عن الإجراءات التى يتخذها الفاتيكان لحماية الأطفال والقصر ومحاسبة أى متورط فى هذه الجرائم، بالإضافة إلى قيامه بعقد كشف نفسى دورى للأساقفة والقساوسة الذين يتعاملون مع أتباع الكنيسة بانتظام، بل لم يخجل البابا من الاعتذار عن خطأ موقفه من بعض الاتهامات التى طالت الكنيسة الكاثوليكية فى تشيلى، حيث لم يكن للبابا رد فعل مرضٍ للضحايا فى بداية عهده، لكنه عاد واعتذر مؤكدًا أنه لم يكن يملك المعلومات الكافية عن هذه الانتهاكات سابقًا!
• • •
بالإضافة إلى نجاحه فى معالجة هذا الملف الشائك بشجاعة ومسئولية تاريخية منقطعة النظير، فقد عرف عن البابا أيضًا مواقفه التاريخية من القضايا السياسية الشائكة لا سيما موقفه من الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطينى وطلباته المتكررة لإحلال السلام فى الشرق الأوسط، وكذلك موقفه التاريخى من الاعتذار عن تورط الفاتيكان فى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فى دعم الاستعمار موجهًا أكثر من اعتذار إلى إفريقيا وآسيا والأمريكتين عن هذه الأمور طالبًا منهم الصفح والغفران!
كذلك كان للبابا دور تاريخى فى التقارب بين الأديان المختلفة من خلال حوار الأديان الذى كان يرعاه ويؤمن بأهميته فى جلب السلام والتقارب بين الشعوب، فاستحق كلمات شيخ الأزهر أحمد الطيب الذى نعاه، قائلًا: إن البابا فرنسيس قد سخّر حياته فى العمل من أجل الإنسانية ومناصرة قضايا الضعفاء، ودعم الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة.
لقد دان البابا فرنسيس بالإنسانية قبل أن يدين بالمسيحية، فاستحق حب الجميع من كل الأديان والمعتقدات، وهو حب صادق ومستحق لرجل لا يتكرر وجود مثله كثيرًا فى التاريخ، رحمة الله على البابا فرنسيس، وخالص العزاء للمؤمنين والمؤمنات بالإنسانية فى هذا العالم المتوحش!