عن شيطنة الدور المصري في فلسطين - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الأحد 3 أغسطس 2025 5:21 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

عن شيطنة الدور المصري في فلسطين

نشر فى : السبت 2 أغسطس 2025 - 9:05 م | آخر تحديث : السبت 2 أغسطس 2025 - 9:05 م

أدّعى أننى لستُ ممّن أصابهم مرض هستيريا القومية، الذى يدفع صاحبه إلى الهذيان والتماهى التام مع الدولة ككائنٍ مجرّدٍ ومتخيّل، يدافع عنه بغض النظر عن السياق. فالوطن عندى هو حيث أشعر بالأمان، حيث الأهل والأحباب، حيث تقدّر مؤسسات هذا الوطن قدراتى وتمنحنى حقّ الاختلاف. وبهذا المعنى، أعتقد أن لى أوطانًا كثيرة، وبالطبع مصر من ضمنها بحكم الميلاد، والثقافة، وتواجد الأهل والأحباب.
هذه المقدّمة ضرورية قبل الحديث عن القضية الفلسطينية، لأنّ البعض يظن، أو يدفع آخرين للظن، بأنّ الدفاع عن «مصر» فيما يخص حملات شيطنتها بخصوص هذه القضية هو دفاعٌ مدفوعٌ مقدّمًا، أو أن من يقوم به هو بالضرورة مستفيد أو يبحث عن مصلحة ذاتية. لكنّى أدّعى أننى لستُ من هؤلاء، وأننى أتناول هذا الموضوع من زاويةٍ وحيدة، وهى إقرار الحقيقة، وإزالة اللبس، والوقوف فى وجه حملات بعض تيارات الإسلام السياسى، التى لطالما وجدت فى القضية الفلسطينية فرصةً ليس فقط لتصفية حساباتها مع مصر، بل لصنع سردية متقنة تُشيطن وتُخوِّن الدور المصرى بخصوص فلسطين.
• • •
لعلّ من الحقائق التاريخية التى لا يتمّ ذكرها كثيرًا ــ ربما لحساسيتها ــ أن حملة الشيطنة هذه لم تبدأ عام 1967 بعد هزيمة عبد الناصر، ولكنّها بدأت فى مارس من عام 1955، حينما كانت غزة تحت السلطة الإدارية المصرية، حيث خرجت إشاعة بين الفلسطينيين، وخصوصًا ممن تم تهجيرهم قسرًا بعد حرب 1948، بأنّ الجيش المصرى سيقوم بتهجيرهم إلى سيناء، ما دفعهم للتظاهر ضد مصر.
لم يكن الأمر سوى إشاعة، ومن غير المعروف مصدرها، وإن كانت أصابع الاتهام تشير إلى الإسرائيليين، الذين كانوا قبلها بأيام قد شنّوا هجومًا عسكريًا عُرف باسم «السهم الأسود» على نقاط تمركز الجيش المصرى فى غزة، فاستشهد 38 جنديًا مصريًا، وقُتل فى المقابل 8 جنود إسرائيليين. كانت العملية، فى الأساس، ردًّا من الجيش الإسرائيلى على عملية قتلٍ قام بها مسلح فلسطينى من غزة لرجل إسرائيلى يعيش فى بلدة «رحوفوت»، واتّهمت إسرائيل الجيش المصرى بأنه يقف وراء التخطيط للعملية. كما أنّه فى تلك الفترة كان هناك طرح أمريكى، عن طريق الأمم المتحدة، لمصر من أجل قبول لاجئين فلسطينيين فى شبه جزيرة سيناء، وهو ما رفضته مصر.
بعد هزيمة 1967، انتقلت صناعة السردية الفلسطينية من القوميين العرب إلى التيارات الإسلامية، وخصوصًا مع المدّ الإسلامى فى السبعينيات، بحيث تمّ استبدال السردية القومية، التى وعدت بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر باعتبارها واجبًا قوميًّا لمقاومة الرجعية والاستعمار وذيوله نحو إقامة وحدة عربية، بالسردية الإسلامية، التى اعتبرت قضية فلسطين قضية إسلامية، ومن ثمّ يجب تحريرها من أجل تحرير الأقصى، وإقامة دولة إسلامية نحو هدف أبعد يتمثل فى تحقيق الخلافة الإسلامية. وفى ذلك، اختصمت هذه السردية مصر فى شخصية عبد الناصر، الذى لم تتوقف عند اتهامه بإضاعة القضية الفلسطينية، بل اتهمته أيضًا بالعمالة!
بعد قرار الرئيس السادات الشجاع بإقامة سلام مع إسرائيل، بعد إدراكه بعيد النظر لتوازن القوى، وقناعته التامة بهزلية السرديتين القومية الناصرية والإسلامية، اتخذت السردية الإسلامية منحى جديدًا بتخوين السادات، ومعه تخوين مصر، واتهامها بالتواطؤ مع الصهاينة وبيع القضية الفلسطينية.
انتهت هذه الحملة، كما نعلم، باغتيال الرئيس السادات، ثم واصلت طريقها مع الرئيس الأسبق مبارك، وخصوصًا بعد أن تمكّن الأخير من إنهاء المقاطعة العربية لمصر، ودعم بقوة اتفاقية أوسلو، التى كانت تهدف، فى النهاية، إلى إنشاء دولة فلسطينية. لكنها انهارت بسبب صعود اليمين الإسرائيلى من ناحية، وبسبب إصرار «حماس» على تخوين عرفات ومساهمتها الكبيرة فى تصعيد لهجة التخوين ضد مصر وأى طرف منخرط فى القضية الفلسطينية.
سردية حماس اعتمدت على أنها ستقوم بتحرير فلسطين «كلها، وليس بعضها»، وعلى شعار «على القدس رايحين، شهداء بالملايين»، وخيانة الحكام العرب للقضية، ودعوة المسلمين إلى مفهومٍ شديد الغموض يُسمّى «النفير العام» لتحرير فلسطين. وبالقطع كانت مجرّد شعارات غير واقعية، لا تراعى موازين القوى فى العلاقات الدولية، ولا أن كلّ فعل فى السياسة الخارجية، خصوصًا فى موضوع الحرب، له ردود أفعال. وأنّ الحاكم الوطنى بحق هو من يقوم بحسابات دقيقة لثمن أى قرار، خصوصًا إذا كان شعبه هو من سيدفع هذا الثمن، وأنّ الخيانة الحقيقية هى أن يبيع الحاكمُ الوهم، ويدفع شعبه إلى الانتحار باسم المقاومة، فيدفع الشعب أثمانًا بشعة، أقلّها القتل والتشرد والجوع.
وصل الرئيس الأسبق مرسى إلى الحكم، ولم يزحف أحد إلى فلسطين، ولا حرّر أحد القدس، لأن التواجد فى مواقع المسئولية يختلف عن التواجد خارج المشهد والمزايدة بالشعارات.
• • •
الحقيقة أن الأمانة والنزاهة تحتمان القول إن موقف مصر الرسمى هو الأكثر نزاهة مقارنة بباقى الدول العربية وغير العربية. وإنه فى حدود الظروف الاقتصادية والالتزامات الدولية لمصر، وفى حدود القيود التى تفرضها ظروف دول المواجهة والجوار، فإن موقف مصر من قضية فلسطين عامة، وقضية قطاع غزة تحديدًا، شديد الشفافية. ورغم تحفظى على بعض الإجراءات بخصوص عبور الفلسطينيين عبر معبر رفح قبل احتلاله، فإنّ مصر تبقى السند الأكبر الحقيقى للشعب الفلسطينى، وهذا ببساطة ليس منّة، بل واجب.
بذلت مصر مجهودًا كبيرًا فى اتفاق أوسلو لدعم قيام دولة فلسطينية، ثم بذلت جهدًا أكبر لتوفير الحماية للفلسطينيين فى الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومحاولة إعادة كل الأطراف إلى مائدة التفاوض. وحينما قامت إسرائيل بتدمير مطار ياسر عرفات الدولى فى فلسطين، فقد قامت مصر بسحب سفيرها من تل أبيب.
وبعد ذلك، قامت مصر بدور كبير فى تعمير لبنان بعد حرب 2006، كما قامت أيضًا بإمداد غزة بكل المواد الغذائية والدوائية المطلوبة فى حدود الظروف المتاحة وقتها. أما مسألة إغلاق الأنفاق، فهذا طبيعى، لأنه من أعمال السيادة التى لا تقبل الهزل فى وقت الجد. ثم، وبعد انفراد حماس بحكم غزة، فقد تحملت مصر التصرفات الصبيانية لحركة تدّعى المقاومة، بينما هى تحمل كل المكونات الانتحارية المتوفرة لدى أى جماعة جهادية، بدءًا من عدم الإيمان بالدولة القومية، إلى الاستعداد للتضحية بالشعب من أجل شعارات غير واقعية، وصولًا إلى القيام بأفعال منفردة ثم تحميل المسئولية والنتائج لأطراف أخرى، وفى مقدمتها مصر.
واصلت مصر جهودها، وقامت بالتوسّط بين حماس وإسرائيل لإتمام صفقة الجندى شاليط، ثم وقفت فى كلّ مرة هاجمت فيها إسرائيل القطاع دفاعًا عن حقّ الفلسطينيين. وخلال كل ذلك، كانت مصر تدعم عملية المصالحة بين الحركة والسلطة الفلسطينية، لخطورة الانقسام القائم وقتها على القضية الفلسطينية. لكن، كالعادة، كان العناد هو سيد الموقف.
بعد 7 أكتوبر، ورغم أن مصر لم تُستشر ولم تكن، بأى حال من الأحوال، جزءًا من صنع هذا القرار الانتحارى، إلا أنّها، ومن اليوم الأول، منعت عبور الجنسيات الأجنبية من معبر رفح إلى مصر هربًا من الحرب، ورهنت ذلك بالسماح بدخول المساعدات. وبالفعل نجح هذا الضغط. ثم واصلت مصر جهودها لوقف الحرب، وفى هذا السياق قامت بالتصعيد الدبلوماسى مع إسرائيل، فلم تقبل تسمية سفير جديد لتل أبيب فى القاهرة بعد انتهاء عمل السفيرة الإسرائيلية السابقة، ولم تُعيّن سفيرًا جديدًا لمصر فى تل أبيب بعد انتهاء عمل السفير المصرى هناك. كما دعمت القضايا ضد إسرائيل فى محكمة العدل الدولية، وألقت خطبًا واضحة وشفافة لا لبس فيها بخصوص الانتهاكات بحق الفلسطينيين.
• • •
كانت مصر، وما زالت، الوسيط الرئيسى بين الحركة وإسرائيل من أجل أكثر من هدنة لوقف إطلاق النار، ولم يحدث أبدًا أن أغلقت مصر المعبر، كما يروّج أصحاب المصالح، بل العكس هو الصحيح؛ ظل المعبر المصرى مفتوحًا، والرفض جاء من إسرائيل التى احتلت المعبر من الجهة الأخرى. ورغم ذلك، تواصل مصر جهودها المنفردة والجماعية (بمشاركة قطر والولايات المتحدة)، وعبر المنظمات الدولية (فى جنيف ونيويورك ولاهاى) لدعم الحق الفلسطينى.
قد تكون هناك أخطاء، أو اختلاف فى التقديرات، أو توصيات بأن تفعل مصر هذا أو ذاك، أو حتى انتقادات لتصريح هنا أو هناك، أو مشاكل فى المعبر تحتاج إلى تحقيق ومحاسبة، أو فى طريقة تناول الإعلام المصرى للأخبار والمواقف المتعلقة بفلسطين. كلّ هذا وارد وجائز ومسموح به. لكنّ الحديث عن الخيانة، والدعوة إلى محاصرة السفارات المصرية فى الخارج، بما فى ذلك «مسخرة» التظاهر أمام السفارة المصرية فى تل أبيب، فكلّها أفعال رخيصة وانتهازية، لا تقوم إلا بتزوير الحقيقة، وتتمنّى أن تستمر المجاعة والمعاناة للفلسطينيين فى غزة من أجل تصفية حسابات سياسية لا تخفى على أحد مع النظام المصرى.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر