فلسطين وموجة الاعتراف الغربي - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الأحد 28 سبتمبر 2025 7:42 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لقمة الأهلي والزمالك المقبلة؟

فلسطين وموجة الاعتراف الغربي

نشر فى : الجمعة 26 سبتمبر 2025 - 7:15 م | آخر تحديث : السبت 27 سبتمبر 2025 - 11:20 ص

يمثل اعتراف بريطانيا وفرنسا وأستراليا وكندا بالدولة الفلسطينية لحظة مؤثرة فى مسار القضية الفلسطينية وفى السياسة الإقليمية والدولية المرتبطة بها.
فبعد عقود من التردد الغربى بين خطاب دعم «حل الدولتين» وبين واقع عملى يكرس الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، تأتى هذه الخطوة لتفتح نافذة جديدة فى مشهد سياسى مثقل بالحروب والأزمات، وخصوصا فى ظل حرب الإبادة فى غزة، والانتهاكات الإسرائيلية المتكررة فى الضفة الغربية، والتوتر المستمر على الحدود اللبنانية ــ الإسرائيلية.
أولًا: البعد الرمزى والسياسى
أهمية الاعتراف لا تكمن فقط فى الاعتراف القانونى ــ الذى لا يغير موازين القوى على الأرض بصورة مباشرة ــ بل فى الرسالة السياسية التى يبعث بها إلى المجتمع الدولى. فبريطانيا وفرنسا دولتان مؤسستان للنظام الدولى بعد الحرب العالمية الثانية، وعضوان دائمان فى مجلس الأمن، كما أن أستراليا وكندا جزء من التحالف الغربى العابر للقارات. اعتراف هذه الدول يعنى أن «إجماع الغرب» الذى طالما اصطف خلف الموقف الأمريكى ــ الإسرائيلى يتعرض لتآكل تدريجى.
من الناحية الرمزية، يضع الاعتراف الرواية الفلسطينية على الخريطة السياسية الدولية، ويعيد الاعتبار لفكرة أن الاحتلال الإسرائيلى ليس قدرًا أبديًا، وأن للشعب الفلسطينى حقًا فى تقرير مصيره.
ثانيًا: الأثر المباشر على الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى
رغم أن الاعتراف لا يوقف آلة الحرب الإسرائيلية فى غزة ولا يوقف الاستيطان فى الضفة الغربية، إلا أنه يضعف شرعية الممارسات الإسرائيلية على المستوى الدولى. إذ باتت حكومة اليمين المتطرف فى إسرائيل تواجه اليوم بيئة دولية أكثر نقدًا ومعارضة. لم تعد إسرائيل محصنة دبلوماسيًا كما كانت خلال العقود الماضية.
كما أن الاعتراف يقوى موقع السلطة الفلسطينية، رغم ضعفها البنيوى، ويفتح أمامها مجالات أوسع للحضور الدبلوماسى، سواء فى الأمم المتحدة أو فى المنظمات الدولية المتخصصة. وهذا يعزز إمكانية مساءلة إسرائيل قانونيًا، وإن بقى الأمر مرهونًا بميزان القوى فى المؤسسات الدولية.
ثالثًا: الانعكاسات الإقليمية
على الصعيد العربى، يوفر الاعتراف دعمًا معنويًا وسياسيًا للحكومات التى ما زالت متمسكة بخيار حل الدولتين، وفى مقدمتها مصر والأردن والسعودية. فالقاهرة وعمان، اللتان تتشاركان حدودًا مباشرة مع فلسطين وتتحملان كلفة إنسانية وأمنية عالية من استمرار الاحتلال، تستطيعان اليوم القول إن الموقف العربى لم يعد وحيدًا أو معزولًا.
فى المقابل، يضع الاعتراف بعض الحكومات الصديقة للدول العربية فى الجنوب العالمى، والتى اندفعت فى مسار التطبيع مع إسرائيل، أمام معادلة جديدة: كيف تبرر استمرار التطبيع بينما يتزايد الاعتراف الدولى بفلسطين كدولة تحت الاحتلال؟ هذا التناقض قد يفرض على تلك الدول مراجعة خطابها السياسى، وإن لم يصل إلى حد التراجع عن التطبيع.
إقليميًا أيضًا، يعيد الاعتراف الدولى بفلسطين الاعتبار للدبلوماسية فى الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، ويضعف قدرة أنصار الحلول العسكرية والصفرية على الادعاء بكونهم الصوت الوحيد الداعم لفلسطين.
رابعًا: ردود الفعل الإسرائيلية والأمريكية
جاء الرد الإسرائيلى سريعًا وغاضبًا. فقد اعتبرت حكومة نتنياهو أن الاعتراف «مكافأة للإرهاب»، وذهبت بعض الأصوات فى اليمين المتطرف إلى التلويح بإجراءات انتقامية ضد السلطة الفلسطينية والدول التى اتخذت قرار الاعتراف. هذا الغضب يعكس خشية حقيقية من أن تكون الخطوة مقدمة لتغيرات أوسع فى البيئة الدولية، خاصة إن لحقت بها دول أوروبية أخرى كإسبانيا وأيرلندا وبلجيكا.
أما الموقف الأمريكى فكان أكثر تعقيدًا. واشنطن لم ترحب ولم تعترف، لكنها فى الوقت نفسه لم تهاجم حلفاءها الغربيين الذين أقدموا على الاعتراف. وهذا يعكس إدراكًا أمريكيًا لتآكل القدرة على فرض «الفيتو السياسى» على المواقف الدولية من القضية الفلسطينية. الإدارة الأمريكية تبدو عالقة بين ضغوط اللوبى المؤيد لإسرائيل فى الداخل، وبين واقع دولى يتغير تدريجيًا.
خامسًا: التداعيات على ميزان القوى الدولى
إلى جانب البعد الإقليمى، يجب النظر إلى الاعتراف من زاوية التحولات فى النظام الدولى. فالعالم يشهد اليوم تراجعًا فى الهيمنة الأمريكية، وصعودًا لأصوات من الجنوب العالمى تطالب بإصلاح النظام الدولى، سواء فى إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية. والاعتراف الغربى بفلسطين مؤشر على أن بعض مراكز القوى فى الشمال العالمى بدأت تتحرك، ولو ببطء، فى اتجاه يتجاوب مع مطالب الجنوب.
هذا لا يعنى أن العدالة باتت قاب قوسين، لكنه يعنى أن «المقدسات السياسية» فى الغرب التى حمت إسرائيل لعقود بدأت تهتز. وفى لحظة دولية تتسم بالحروب فى أوكرانيا وأزمات الطاقة والمناخ والهجرة، فإن القضية الفلسطينية تعود لتكون معيارًا أخلاقيًا وسياسيًا يقاس به صدق الغرب فى الدفاع عن قيم حقوق الإنسان.
مع ذلك، يظل الاعتراف خطوة غير كافية ما لم تتبعها إجراءات عملية. فإسرائيل ما زالت تسيطر على الأرض، وتواصل مشروعها الاستيطانى، وتمارس سياسات تهجير ممنهج فى غزة والضفة. وبدون ضغط دولى حقيقى يربط الاعتراف بآليات تنفيذية ــ كالعقوبات الاقتصادية، أو تقييد التجارة العسكرية مع إسرائيل، أو دعم مسارات العدالة الدولية ــ سيبقى الاعتراف فى الإطار الرمزى أكثر منه فى الإطار العملى.
وفى السياق العربى، يبقى الرهان على قدرة الحكومات والمجتمعات المدنية على توظيف هذه اللحظة لتعزيز الموقف التفاوضى الفلسطينى، ولإعادة بناء توافق عربى يضع فلسطين فى قلب الأولويات، بعيدًا عن الانقسامات البينية والحروب الأهلية التى مزقت المشرق والمغرب.
اعتراف بريطانيا وفرنسا وأستراليا وكندا بدولة فلسطين لا ينهى الاحتلال ولا يوقف الحروب، لكنه يفتح نافذة أمل ويؤسس لتوازن جديد فى المشهد الدولى. هو اعتراف بأن الشعب الفلسطينى موجود، وأن حقه فى تقرير المصير لا يمكن طمسه. وهو فى الوقت نفسه دعوة للحكومات العربية والمجتمع الدولى إلى أن يتحركا بما يتجاوز الرمزية إلى الفعل، بما يعيد الاعتبار لحل عادل وشامل يقوم على إنهاء الاحتلال وضمان الحقوق المشروعة للفلسطينيين.
بهذا المعنى، يمثل الاعتراف خطوة فى مسار طويل ومعقد، لكنه قد يكون الشرارة التى تدفع أطرافًا دولية أخرى إلى إعادة النظر فى مواقفها، وربما إلى تبنى سياسات أكثر إنصافًا. أما فى الشرق الأوسط، فهو يضيف طبقة جديدة إلى شبكة التفاعلات الإقليمية، بين دعم فلسطينى متجدد، وغضب إسرائيلى متصاعد، ومواقف عربية متباينة، وانتظار مفتوح لمستقبل لا يزال رهنًا بتوازنات القوى والصراع.

عمرو حمزاوي أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي
التعليقات