بينما تتعثر خطوات تنفيذ اتفاق غزة وتتجاذب أطرافه بين من يريد المضى قدما فى ترتيبات الأمن والإغاثة وإعادة الإعمار، ومن يحاول العودة إلى منطق الحرب والانتقام، تبدو مصر، مرة أخرى، فى موقع الدولة التى تتحمل مسئولية إنقاذ الممكن من بين أنقاض المستحيل. فالقاهرة تدرك أنه لا بدائل واقعية لاتفاق غزة الراهن، وأن البديل الوحيد هو العودة إلى الحرب، بكل ما يعنيه ذلك من دمار إضافى، وانفجار إقليمى، وانهيار ما تبقى من فرص لحماية المدنيين الفلسطينيين ولتثبيت أى مسار نحو الاستقرار. والعودة إلى الحرب ليست خيارا مقبولا، لأنها ستدفع الفلسطينيين، الذين تحملوا أكثر من غيرهم، إلى معاناة جديدة لا يحتملها البشر.
منذ بداية وساطتها، وضعت مصر لنفسها هدفين واضحين ومتلازمين: وقف الحرب ومنع تهجير الفلسطينيين. فالمعادلة المصرية بسيطة ولكنها شديدة الصرامة: لا أمن فى الإقليم دون بقاء الفلسطينيين على أرضهم، ولا سلام مستدام دون إنهاء الحرب. لذلك تعمل القاهرة على المزج بين المسارين الأمنى والسياسى فى كل تفاصيل الجهد الدبلوماسى الذى تبذله، فلا فصل بين الميدان والسياسة، ولا بين الأمن والحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى. ومن هذا المنطلق، تتعامل مصر مع اتفاق غزة باعتباره فرصة نادرة لوقف الدمار ولبناء مسار تدريجى نحو إعادة الإعمار والحكم الفلسطينى الموحد، لكنها تدرك أيضا هشاشته وخطورة القوى التى تعمل على إفشاله.
• • •
فى المرحلة الراهنة، تسعى مصر إلى تثبيت ما تبقى من الاتفاق عبر ضمان تنفيذ الخطوات المتفق عليها: إعادة جثث الرهائن الإسرائيليين، وفتح المعابر أمام تدفق المساعدات الإنسانية، وامتناع إسرائيل عن أى عمليات عسكرية جديدة فى القطاع. هذه ليست إجراءات تقنية أو إنسانية فقط، بل هى اختبار لقدرة الأطراف على الالتزام بالحد الأدنى من روح الاتفاق. فكل خرق أو تلكؤ إسرائيلى فى إدخال المساعدات أو كل تصعيد عسكرى جديد يهدد بانهيار كامل للمسار. ولهذا تمارس القاهرة ضغوطًا مكثفة، سواء عبر القنوات الثنائية أو بالتنسيق مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة وقطر، لضمان بقاء الهدوء قائمًا ولتحويله إلى مقدمة لتثبيت الاستقرار.
وفى الوقت ذاته، لا تنحصر الرؤية المصرية فى حدود قطاع غزة وحده. فمصر ترى أن استقرار القطاع لا يمكن فصله عن الأوضاع المتفجرة فى الضفة الغربية، وأن استمرار الاستيطان والعنف هناك ينسف أى حديث عن تسوية أو تهدئة. لذلك تضع القاهرة ضمن أولوياتها تثبيت الأوضاع فى الضفة ومنع توسع المواجهات، سواء عبر التواصل المباشر مع السلطة الفلسطينية أو عبر الضغط السياسى على الحكومة الإسرائيلية لكبح جماح المستوطنين ووقف سياسات العقاب الجماعى.
• • •
لكن النظرة المصرية تتجاوز هذه المرحلة التكتيكية إلى مرحلة ثانية أكثر عمقًا فى الاتفاق، تتمثل فى بناء إطار أمنى وسياسى متكامل لما بعد الحرب. فمصر تدفع نحو تشكيل قوة استقرار دولية تستند إلى قرار من مجلس الأمن الدولى، تضمن وقفًا دائمًا لإطلاق النار وتراقب تنفيذ الترتيبات الأمنية على الأرض. وفى هذا الإطار، تعمل القاهرة على تنسيق الجهود مع الأردن وعدد من الدول الإقليمية التى يمكن أن تسهم فى القوة المقترحة. وترى مصر أن عودة العناصر الأمنية الفلسطينية إلى غزة - وهى تتلقى تدريباتها حاليا فى مصر والأردن - تمثل خطوة جوهرية فى استعادة الدور الوطنى الفلسطينى فى إدارة القطاع وفى إنهاء الانقسام الداخلى الذى أنهك القضية.
وترتبط بهذه الرؤية الأمنية خطوة موازية لا تقل أهمية: تشكيل لجنة تكنوقراط فلسطينية مستقلة لإدارة غزة خلال المرحلة الانتقالية، تكون نابعة من إجماع وطنى فلسطينى واسع، وتبتعد عن المحاصصة الحزبية وعن التدخلات الخارجية. فمصر تؤمن أن نجاح أى تسوية دائمة يتطلب إدارة مهنية وشفافة لشئون القطاع، قادرة على إعادة الثقة للمواطنين وعلى التنسيق مع المجتمع الدولى فى ملفات الإعمار والخدمات الأساسية. ومن هنا، تشجع القاهرة الحوار بين مختلف القوى الفلسطينية فى القاهرة وعمان لتقريب المواقف وتوفير الغطاء السياسى لهذه اللجنة.
أما الملف الأكثر حساسية، أى نزع سلاح حماس والفصائل المسلحة، فترى مصر أنه لا يمكن التعامل معه بمعزل عن الأفق السياسى العام وأنه لن ينجح عبر فرض وصاية خارجية أو إملاءات من الخارج، بل فقط فى إطار إجماع وطنى فلسطينى يشمل الضفة وغزة ويستند إلى رؤية واضحة لاستعادة حيوية حل الدولتين. فالقاهرة لا ترى فى نزع السلاح هدفًا بحد ذاته، بل خطوة ضمن مسار أشمل نحو دولة فلسطينية موحدة وآمنة قادرة على حماية نفسها ضمن نظام إقليمى مستقر. ولذلك تعمل على ربط هذا الملف بالعودة إلى المفاوضات السياسية الجادة التى غابت منذ سنوات، وعلى إقناع الأطراف الدولية بأن أى حل أمنى منفصل عن السياسة مصيره الفشل.
وفى صلب الرؤية المصرية، يأتى المسار الإنسانى الذى يمثل جوهر المرحلة التالية، والمفتاح الحقيقى لتثبيت السلام. فإعادة الإعمار ليست مجرد مشروع هندسى أو مالى، بل عملية لبناء مجتمع قادر على الحياة بعد الكارثة. القاهرة ترى فى هذا الملف مسئولية جماعية، تسعى إلى ضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها بعيدًا عن الفساد والانقسام، وأن تُستخدم عملية الإعمار لإعادة بناء مؤسسات الحكم المحلى والاقتصاد الفلسطينى الصغير والمتوسط. وتعمل مصر، بالتعاون الوثيق مع الأمم المتحدة والدول المانحة، على وضع آلية شفافة ومراقبة دولية لإدارة التمويل وتوزيع الموارد، مع الحرص على أن تكون القيادة الفلسطينية، لا أى طرف خارجى، هى المسئولة عن تحديد الأولويات وتنفيذ البرامج.
فى هذا الإطار الأوسع، تتحرك القاهرة بوعى تام بأن غياب الرؤية الأمريكية الواضحة بين ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وتوقيع اتفاق غزة فى أكتوبر ٢٠٢٥ خلق فراغًا خطيرًا فى إدارة الصراع، وأن هذا الفراغ لا بد أن يُملأ بحركة عربية مسئولة ومبادرات إقليمية وأوروبية منسقة تتواصل بإيجابية مع الولايات المتحدة. لذلك تعمل مصر مع الولايات المتحدة، لا فى موقع التابع أو البديل، بل كشريك يسعى لأن يكون عبر عمله مع الإدارة الأمريكية وبحركته الإقليمية والدولية، عاملًا مساعدًا على نجاح اتفاق غزة وتثبيت مراحله. وهى تدرك أن إدارة هذا الملف المعقد تحتاج إلى مزيج من الصبر والحزم، ومن الواقعية السياسية والتمسك بالمبادئ الراسخة وهى الحل السلمى وتقرير المصير الفلسطينى فى إطار صيغة الدولتين وتمكين الشعب الفلسطينى من البقاء على أرضه فى القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة دون استيطان أو تهجير.
إن الدور المصرى فى اتفاق غزة ليس مجرد دور الوسيط التقليدى، بل هو دور الدولة التى ترى أمنها القومى واستقرار الإقليم مرتبطين مباشرة بمصير القضية الفلسطينية. ولذلك تتحرك القاهرة دفاعًا عن الفلسطينيين وحقهم فى الحياة على أرضهم، وإيمانًا بأن الاستقرار الإقليمى لن يتحقق إلا بسلام عادل ودائم. وفى ظل حاضر التغول العسكرى الإسرائيلى وماضى الانقسامات العربية وحاضر الارتباك الدولى بفعل تعدد الصراعات الراهنة، يبقى صوتها من بين الأصوات القليلة التى تدعو إلى منطق السياسة بدل الحرب، وإلى التفاوض بدل القوة، وإلى بناء مستقبل مشترك بدل الدوران فى دوامة العنف والانتقام.
لقد أثبتت التجارب أن غياب مصر عن أى تسوية يعنى غياب التوازن والعقلانية، وأن وجودها شرط لأى استقرار ممكن. واليوم، فى ظل هذا الاتفاق الهش والمفتوح على احتمالات الفشل، تبقى مصر القوة القادرة على تحويل الهدنة إلى بداية جديدة لمسار طويل نحو سلام عادل ودائم، وإلى فرصة لتمكين الفلسطينيين من إعادة بناء وطنهم بأيديهم وبدعم من أشقائهم والعالم.
أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى
الاقتباس:
إن الدور المصرى فى اتفاق غزة ليس مجرد دور الوسيط التقليدى، بل هو دور الدولة التى ترى أمنها القومى واستقرار الإقليم مرتبطين مباشرة بمصير القضية الفلسطينية. ولذلك تتحرك القاهرة دفاعًا عن الفلسطينيين وحقهم فى الحياة على أرضهم، وإيمانًا بأن الاستقرار الإقليمى لن يتحقق إلا بسلام عادل ودائم.