روح غاندى وفلسفة التسامح - العالم يفكر - بوابة الشروق
الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 7:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

روح غاندى وفلسفة التسامح

نشر فى : السبت 26 أكتوبر 2024 - 6:45 م | آخر تحديث : السبت 26 أكتوبر 2024 - 6:45 م

عبدالحسين شعبان

فى «بارك راجات» (ضفة الملك) حيث يرقد غاندى، ألقيت نظرة عليه مأخوذًا بنهر بامونا الأسطورى الذى يمر عبر دلهى قادمًا من جبال الهملايا، ومن الجهة الأخرى لراجات، هناك متحف ضم مقتنيات غاندى وكُتبه وصوره، هو الذى ظلت روحه ترفرف فوق الهند، حيث كان قد حلق فى سماوات بعيدة وسبح فى بحور عميقة، لا سيما أن الإنسان فى داخله كان هو المقياس لكل شىء بحسب الفيلسوف الإغريقى «بروتوغوراس».
ومعروف أن غاندى اغتيل كرد فعل لأفكاره وآرائه، وتلك إشكالية نظرية كبيرة لا تزال مطروحة على طاولة البحث من جهة وفى الواقع العملى من جهة أخرى وبصورة أكبر، لا سيما نشوء ظواهر اللاتسامح التى تثيرها أحيانًا أجواء التسامح، فتستغلها القوى غير المتسامحة لفرض آرائها بالعنف أو بالتهميش أحيانًا.
وثمة أسئلة كبرى تتفرع عن هذه الإشكالية، وتتداخل معها، ومنها: ما السبيل للتعامل مع ظواهر اللاتسامح ومع غير المتسامحين؟ هل ينفع نهج التسامح مع اللا متسامحين؟ أم ثمة مواجهة، لا بد منها، بين التسامح واللا تسامح وبين المتسامحين وغير المتسامحين؟ ومتى يكون الحزم مع غير المتسامحين ضروريًا؟ وهل التسامح أو اللا تسامح هو اختيار أم اضطرار؟ وهل يؤدى عدم التسامح مع غير المتسامحين إلى الابتعاد عن قيم التسامح أم أنه يقود إلى ترسيخها ثم ما مبررات البعض فى مواجهة اللا تسامح وغير المتسامحين بالوسيلة ذاتها لإيقافهم عند حدهم؟ أو ليست تلك ذريعة أو حجة فى نقض قيم التسامح ذاتها؟ وبالإمكان القول إن ثمة خيطًا رفيعًا بين استخدام القوة والعنف فى ردع غير المتسامحين وبين اللجوء إلى «حكم القانون»، لمنع المغالاة فى الاستفادة من بيئة التسامح بالضد منها، وهو ما يذهب إليه كارل بوبر فى دفاعه عن قيم التسامح.
• • •
لم يكن غاندى الضحية الوحيدة للاتسامح، فقد تبعته لاحقًا أنديرا غاندى وراجيف غاندى، والسبب دائما هو عدم الإيمان بقيم التسامح، حيث تكون مبررات القتلة، على الرغم من اختلاف مسوغاتها، عدم قبول الآخر بسبب دينه أو قوميته أو لغته أو لونه أو جنسه أو أصله الاجتماعى.
جدير بالذكر أن غاندى اختار نهج اللّاعنف والمقاومة السلمية المدنية، هو الذى أوصل الهند إلى الاستقلال فى مواجهة بريطانيا، أعتى دولة إمبريالية فى حينها، وهو ما ظلّ متمسّكًا به حتّى يوم اغتياله، فى حين كانت مبرّرات القاتل (ناتهورام غودسى) المعلنة والمضمرة، تدور حول موقف غاندى من تجزئة الهند، التى حاول البريطانيون العبث بوحدتها، وقد أصر على مبدأ التضامن والعيش معا بين الهندوس والمسلمين وباقى المجموعات الثقافية، ورفض التقسيم بشدة لأسباب مبدئية ووطنية، لم تكن بعيدة عن إيمانه بمبادئ التسامح، فشجع المسلمين وحثهم على عدم الرحيل إلى القسم الباكستانى عندما أصبح التقسيم أمرًا واقعًا، ودعا الهندوس وشجعهم على التعايُش مع المسلمين وعدم اللجوء إلى العنف، وكانت تلك السياسة المتسامحة تلقى رفض بعض القادة المتطرفين من الفريقين.
بعد ما يزيد على ثلاثة عقود ونصف العقد من الزمن على اغتيال غاندى، مؤسس الهند الحديثة ورائد الاستقلال الأول، وتحديدًا فى عام 1984 سيقوم مرتكب آخر، يدعى جاسفير باغتيال السيدة أنديرا غاندى، وهو مرافقها من الطائفة السيخية، والمبرّرات هى ذاتها. وأنديرا غاندى هى ابنة زعيم الهند جواهر لال نهرو أحد قادة حركة الحياد الإيجابى ومؤتمر باندونج فى العام 1955 وحركة عدم الانحياز لاحقًا.
لعل سبب مقتل أنديرا غاندى هو اللا تسامُح أيضًا، حيث كان بعض السيخ وقتها قد طالبوا فى إقليم البنجاب بالاستقلال بما يسمّى بكالستان باعتباره حقًا لهم، وكانوا قد تقدموا باقتراح لها، لكنها رفضته، الأمر الذى دفعهم للقيام بأعمال عنفية طالت أعدادًا من الهندوس، فاضطرت حينها إلى التصدى لهم فى عملية سميت ببلوستان Bluestan، خصوصًا بعد اعتصامهم فى المعبد الذهبى فى البنجاب، وحدوث معارك أدت إلى سقوط عدد من المدنيين. وعلى الرغم من ترددها فى قصف المعبد أو اقتحامه فإنها فى نهاية المطاف أعطت الأوامر بحسم الأمر والتصدى بحزم إلى مَن اعتبرته سببا فى المشكلة ويتحمل نتائجها.
إن رفض أنديرا غاندى مطلب التقسيم (استقلال إقليم البنجاب) وتمسكها بوحدة الهند كان وراء اغتيالها، مثلما لقى راجيف غاندى مصرعه أيضًا، لأنه وقف ضد حركة التاميل، ووافق على إرسال قوات هندية لدعم سريلانكا، يومها قامت سيدة فى محاولة لتقديم باقة ورد له، لكنها بدلًا من ذلك فجرت قنبلة فيه.
• • •
إن مسلسل الاغتيالات للزعامات الهندية، فضلًا عن استخدام العنف بين المجموعات الثقافية، بين الفينة والأخرى، يدعو إلى التأمل، فبذرة اللا تسامح ما تزال قوية فى المجتمع الهندى الذى يشهد فى الكثير من الأحيان نزاعات وصدامات واحترابات، لا سيما بين الهندوس والمسلمين، وهو المرض الخبيث الذى بذرته بريطانيا قبيل اضطرارها للرحيل عن الهند.
سألت مرافقى الشاب فى زيارتى الأولى عن رأيه بغاندى وسياسة التسامح؟ أجابنى: غاندى رجل عظيم ورمز كبير، لكن أفكاره مثالية وغير واقعية وليست ممكنة التطبيق، إذ لا يمكن حل الصراعات من دون عنف، لأن من بيده الثروة والمال والسلطة لا يستغنى عنها لمصلحة المحرومين أو لتحقيق العدالة والمساواة من دون وجود قوة ضاغطة عليه.
وسألته: هل تعنى بالقوة العنف؟ وكنت أقصد رؤية ماركس عن دور العنف كمحرك للتاريخ، أم القصد منها المنع والردع؟ تململ الشاب ذو الثقافة التعددية الهندية - الشرقية - الغربية، فأردفته بالقول: المعرفة قوة بحد ذاتها على حد تعبير الفيلسوف فرنسيس بيكون، فهل توافقنى على استخدامها؟ أم أنك تميل إلى استخدام العنف الفيزيولوجي؟ وكنت قد كررت ذلك بطرحى أسئلة على مرافقتى الهندية خلال زيارتى الثانية لحضور مؤتمر نظمه المجلس الهندى للعلاقات الخارجية فى نيودلهى بخصوص العلاقات الآسيوية (2010).
أعتقد أن القضاء على الأمية والجهل وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعاشية، وتأمين ظروف عمل مناسبة وضمانات صحية واجتماعية، كفيل بنشر قيم التسامح ومقاربة العدالة وتهيئة الظروف للإقرار بالتنوع والتعددية وقبول حق الاختلاف وحق التمسك بالمعتقدات بحرية ومن دون عسف أو خوف، وهو ما تدعو له قيم التسامح، لا سيما إذا تم ذلك من خلال التربية والتعليم ولجميع المراحل الدراسية، إضافة إلى التشريع والقوانين، ويلعب الإعلام دورًا مهمًا على هذا الصعيد، إذ بمقدوره الإسهام بشكل كبير فى نشر وتعميم ثقافة التسامح؛ وهنا يمكن أن تسهم مؤسسات المجتمع المدنى بقسطها فى التأثير على النخب الفكرية والسياسيّة والدينية، لتأكيد احترام الحقوق الإنسانية والاعتراف بحق الاختلاف والتنوع والتعددية. ولعل مهمة كتلك تحتاج فى ظروف الهند إلى تراكم طويل الأمد لترسيخ قيم التسامح وفى مواجهة اللا متسامحين، الذين تصبح مهمتهم صعبة فى المجتمعات المتسامحة.
وإذا كان نهرو بانى الهند هو أول من رفع علم بلاده الوطنى فى 15 أغسطس 1947 معلنًا نهاية الحكم البريطانى للهند، فإن روح غاندى المؤسس وصاحب فلسفة اللاعنف والتسامح ما تزال ترفرف على الهند، ويشكل مرقده الأخير فى راجات مزارًا للهنود وضيوفهم من شتى أنحاء العالم حتى وإن تحفظ البعض على فلسفته اللا عنفية.

مؤسسة الفكر العربى

النص الأصلى:
https://tinyurl.com/3stau5k4

الاقتباس:
إن مسلسل الاغتيالات للزعامات الهندية، فضلًا عن استخدام العنف بين المجموعات الثقافية، بين الفينة والأخرى، يدعو إلى التأمل، فبذرة اللا تسامح ما تزال قوية فى المجتمع الهندى الذى يشهد فى الكثير من الأحيان نزاعات وصدامات واحترابات، لا سيما بين الهندوس والمسلمين، وهو المرض الخبيث الذى بذرته بريطانيا قبيل اضطرارها للرحيل عن الهند.

التعليقات