قبل فوات الأوان - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 4:16 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قبل فوات الأوان

نشر فى : الخميس 27 يناير 2011 - 9:23 ص | آخر تحديث : الخميس 27 يناير 2011 - 10:39 ص

 القضية كانت لا معقولة، ومثيرة..

فقد حيرت الولايات المتحدة سلسلة من الجرائم كان القاتل فيها يكمن فى مكان خفى، ويطلق الرصاص على العشاق الشبان وهم يتبادلون العواطف فى أماكن منعزلة. ولما كانت أماكن عزلة العشاق فى كل الدنيا معروفة أكثر مما يتصور العشاق أنفسهم، إما لأن الكبار كانوا عشاقا فى يوم من الأيام وارتادوا هذه الأماكن أو فكروا فى ارتيادها، أو لأن الصغار صاروا عشاقا ويرتادون هذه الأماكن أو يخططون لارتيادها، فقد استفاد البوليس من ذكريات العواجيز وإفادات الشبان، وتم تحديد الأماكن المُتوقَّعة لعناق العشاق، ومن ثم المخابئ المحتملة التى يمكن أن يتحصن بها القاتل، والذى تم القبض عليه بالفعل قبل أن يُردى آخر ضحيتين من ضحايا الحب، برصاصتين مصوبتين بدقة من بندقية ضغط هواء شديدة القصف، ومزودة بتلسكوب يرى فى العتمة أكثر مما يرى فى الضوء الساطع!

كان اسم القاتل «دافيد بيركوفيتز»، وهو أمريكى يهودى من أصول ألمانية، ولا أقطع بأن هذا له دلالة أم لا، لكن إجابة القاتل على أسئلة المحققين هى التى كان لها أغرب الدلالات، فقد تبيَّن أنه من عبدة الشيطان، وأفاد بأنه كان يقتل طبقا لأوامر يتلقاها من كلب تلبَّسه الشيطان ويمتلكه جاره «سام كارر». ولا أعرف مما قرأته من القصة، إذا كان قد ثبت للمحكمة جنون القاتل بيركوفيتز أو ادعاؤه الجنون، وليس هذا مما يعنينى هنا على أية حال، فما يعنينى هو قانون يتعلق بالقاتل وقصة جرائمه كما حكاها بنفسه لأحد المغامرين واثنين من الناشرين، وقد صدر القانون فى ولاية نيويورك تحت اسم قانون «ابن سام» Son of Sam Law، مشتقا كما هو واضح من اسم صاحب الكلب «المُتشيطن» الذى ادعى القاتل أنه يُصدِر له أوامر ضرب العشاق بالنار!

«قانون ابن سام» قرر أن أى مبالغ يتلقاها المجرم عن أعمال تصف جرائمه يجب أن تُدفع للضحايا أو لورثتهم أو لضحايا جرائم أخرى. وقد صدر القانون بسرعة ملحوظة لملاحقة القاتل والناشرين والمغامر الذى نقل القصة عن القاتل، حتى يمنعهم جميعا من الاستفادة بأية عوائد يدرها نشر القصة بعد أن صدرت فى كتاب وتحولت إلى فيلم سينمائى، وقد أُعيد بالفعل مبلغ مائة وثمانين ألف دولار من عوائد الكتاب والفيلم، ووُزِّعت على ثمانية من ضحايا القاتل مأمور الكلب، الذين لم يلقوا حتفهم، وعلى عائلات ضحايا آخرين صرعتهم رصاصاته.

هذا القانون الذى اخترق مُطْلقات حقوق النشر وحقوق صاحب المصنف الأدبى أو الفنى أو الإبداعى أو غيره من المسميات، كان ينصبُّ فى المقام الأول على منع مرتكبى الجرائم من الانتفاع بجرائمهم، لكننى أرى فيه ما هو أبعد من المصنفات الأدبية والفنية، فهو يقدم قاعده قانونية أخلاقية منطقية تحول بين أى مجرم وبين الاستفادة بأية عوائد معنوية أو مادية تتحقق من جريمته، وهى قاعدة نحن أحوج ما نكون لها، الآن وهنا، وبعد أن زكمت روائح جرائم الفساد أنوفنا وأزهقت ما أزهقت من الأرواح والمُثل والقيم، والتوازن الاجتماعى، والسوية الإنسانية، والاستقامة السياسية، ورِفعة العدالة، ونقاء روح القانون!

جرائم الفساد التى اجتاحت مصر هى جنايات كُبرى أشد من القتل، وتسمى «جرائم ذوى الياقات البيضاء» نسبة إلى مظاهر مرتكبيها الذين هم أقذر وأسود ضميرا من القتلة المجانين أو مُدّعى الجنون، لأن بِيض الياقات هؤلاء يرتكبون جرائمهم بوعى ماكر، وتدابير لئيمة، فيقتنصون من كعكة الثروة القومية «هبرات» لا معقولة، ولا تتناسب مع الجهد الطبيعى لرجال الأعمال الأسوياء، وفى مصر رجال أعمال أسوياء لا شك، بنوا ثرواتهم من كدح ذهنى ومهنى متميز، وهم مختلفون عن أولئك المجرمين الذين يتلقون أوامر قتل الأمة من كلاب مسعورة غبراء تقبع فى دواخلهم الأنانية، مفرطة الأنانية، وعمياء البصيرة، وغالبا ما يكونون تحت حراسة كلاب أخرى تحرسهم، وتلَغُ فى عطاياهم!

تمتلئ مواقع الإنترنت بوقائع وسجلات الفساد والمفسدين فى مصر، وتذكر أسماء الناهبين والسارقين والمرتشين وما سرقوا وما نهبوا وما ارتشوا به، وهى جرائم عادت على مرتكبيها بأرقام مرعبة تتجاوز الملايين إلى المليارات، ومع ذلك ما من مساءلة جادة ولا محاولة حقيقية لاستعادة الحق فيما تم الإجرام به وفيه، ولا حتى تعويض الأمة عن هذا ولو فى حدود التوافق، هذا فى بلد تعم أغلبية سكانه أحزان الفاقة والهوان وقلة الحيلة. إضافة للأحزان القومية التى لا أعرف كيف يدَّعى إمكانية علاجها من كانوا سببا فى إصابة الأمة بنوائبها!

الفساد لا يعنى فقط نيل من لا يستحق ما لا يستحق، ومن ثم إصابة حس العدالة فى مقتل، وهو أمر مدمر لنفسية مجمل الأمة، لكنه يعنى أيضا خلق حالة من التكالب على المغانم الفاحشة، وتسييد منطق الخطف والسلب والنهب، أى التدمير المجتمعى، ومن ثم الانصراف عن كل ملامح البناء المادى والمعنوى التى تنهض على قواعد احترام قيم العمل والإبداع والابتكار وتقدُّم البحث العلمى وإعمال العقل.

مصر لم تعد تحتمل المزيد من اليأس والتيئيس بالدوران فى هذه الحلقة الكئيبة دون انقطاع، فهذا فى غاية الخطورة أمنيا واجتماعيا واقتصاديا ونفسيا وروحيا على كتلة سكانية ضخمة محشورة فى حيز ضيق وضوائق متداخلة، مصر فى حاجة إلى إنقاذ لم يعد هذا الحكم وحده قادرا عليه، حتى لو أمعن فى تنظيف ما تراكم من أخطائه وخطاياه ومخطئيه.

مصر تضج بسخط داخلى هائل، فى واقع لن ينكر غير العميان والمتعامين أنه صار فى حاجة إلى إنقاذ، بل إنقاذ عاجل لصالح الجميع دون استثناء. أم أن القتلة ها هنا، من كل حدب وصوب، صاروا جاهزين للادعاء بأن أوامر ضرب النار تصدر إليهم من حيوانات ما، أو حشرات؟! لينالوا أحكاما مخففة، أو لا أحكام على الإطلاق، ويتنعَّمون بعوائد جرائمهم.. فوق تلال الخراب؟!

خراب الأمة الأم، وخرابهم فى نهاية المطاف لو كانوا يدركون، ويعقلون، ويحسون. ووالله ما زلت أتمنى صادقا أن يدركوا، ويعقلوا، ويحسوا.. قبل فوات فوات الأوان!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .