عَــضَّة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 6:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عَــضَّة

نشر فى : الجمعة 27 مايو 2022 - 11:15 م | آخر تحديث : الجمعة 27 مايو 2022 - 11:15 م

أمسَكتُ بالقلمِ الجاف وتأملته مليًا. كانت مؤخرته مُنبعجةً وكأنه تعرَّض لحادث بدَّل هيئته الأنيقة وأودى باحترامه. الغطاءُ الأزرق كان بدوره في حالٍ يُرثى لها، فقد تآكلت قمتُّه وشارفت على الزوال. ليس هو القلم الوحيد المُصاب، فتلك عادة متوارثة شبَّ عليها كثيرون ممن لم يعرفوا لوحة الأزرار ولم يتفاعلوا باللمسات؛ إنما تدربوا على الكتابة بأيديهم، وحسَّنوا خطوطَهم مرارًا وتكرارًا، وعضُّوا أثناء المُذاكرة أقلامَهم؛ تارة بسبب القلق، وتارة أخرى لمجرد التسلية. كانت عضَّةُ القلم تفريغًا للطاقةُ المكبوتة، بفعل ساعات من الثبات أمام الكُتُب والكراريس.
• • •
العضَّةُ اسم مَرة من الفِعل عَضَّ، بمعنى شدَّ على الشيء بأسنانِه وضغط. عضَّض أي تمادى وبالغ في العضّ، والرَّجلُ العَضوض أو العضَّاض هو كثير العضّ، وقد اشتهر لاعب كرة القدم الأورجواياني لويس سواريز، لا بالعنف الجسدي المعروف أثناء اللعب فقط؛ إنما بعضِّ زملائه. اعتاد اللاعب أن يفقد أعصابَه؛ تأخذه الحماسةُ وتغيظه الإعاقةُ عن وصول المرمى؛ فيغرز أسنانه في ذراع أو ساق المُنافِس. عوقِبَ سواريز أكثر من مرَّة ولم يرتدع، لكنه غدا أكثر استقرارًا في الآونة الأخيرة.
• • •
عضلةُ الفكّ هي أقوى عضلة في جسم الإنسان، ومن ثمَّ فإن العضَّة التي تبدو أمرًا مضحكًا ومثيرًا للسخرية قد تصبح فعلا أخطر من اللَّكم والرَّكل. عضَّةٌ قويةٌ قد تنزع أذنًا من مكانها، وقد تفصلُ عقلةَ أصبعٍ من كفّها، وقد تصنع جرحًا عميقًا يحتاج إلى تدخُّل جراحيّ لا هذر فيه.
• • •
إذا قيل عَضَّ الشخصُ على نواجذِه غيظًا؛ فالحال أنه لم يستطع إخراج مشاعرَه المَكبوتة عبر قناةٍ أوضح تعبيرًا أو أكثر إفصاحًا. بعضُ الناس يقعون فريسةً للتوتُّر العنيف، يعضُّون على أسنانِهم فيصدر عنها صريرٌ؛ ربما مَسموع مِن المُحيطين. يتكرر الأمر أثناء النوم فيستيقظون بألمٍ في الفكّ، وقد يغفلون عن السبب إلى أن يكتشفه طبيب. ثمَّة أعراضٌ لأوجاعِ النَّفسِ لا تظهر مُباشرةً، إنما يعكسها الجسدُ في صوَرٍ مُتغيّرة.
• • •
إذا قال واحدٌ عن آخر: عضَّته والقبر؛ فكناية عن قُدرةٍ هائلة على الإيذاءِ لا تعرف حدودًا وقد لا تتوقَّف أمامَ مَوانع أخلاقيةٍ أو إنسانية. تحلُّ القرصَةُ بعضَ الأحيان محلَّ العضَّة فيقال أيضًا: قرصَته والقبر؛ التدبير مُحكَم في الحالين والنهايةُ هلاك.
• • •
يُدخِل الصغيرُ قبضتَه في فمه؛ عضَّةٌ تعقبها ثانيةٌ وعاشرةٌ، حتى ليصبح الفم مشغولًا بعملِه الجديدِ على الدوام. ظهور الأسنانِ مُؤلم، والتعبير عما يُعكّر المزاجَ عسيرٌ، لكن العضَّاضة تؤدي مُهمتها دومًا بنجاح؛ إلى أن يمُرُّ الوقتُ وتأخذُ الطبيعةُ مجراها، ويشقُّ الكامنُ طريقَه المَرسوم.
• • •
إذا أمسكَ النجَّار أو النحاتُ بمبردِه، ومرَّره عفوًا في اتجاه خاطئ؛ عضَّ المَبرَدُ الخشبَ وترك فيه ندوبًا، أما إذا استبصرت اليدُّ اتجاه الألياف وأوفتها حقَّها من الصَون والاحترام؛ نالت مُبتغاها بلا عضّ ودون خسارة.
• • •
ربما يتشبَّث المرءُ بفُرصةٍ ما، ويبذل للاحتفاظ بها ما أوتي من مَهارة. يعضُّ عليها بيديه وأسنانِه رافضًا تركها. العضُّ هنا مجازيٌّ، والمَجاز يكتسبُ قوَّتَه مما يُعرَف عن العضَّة في ذاتها من قوةٍ حقيقيةٍ لا استعاريَّة، قادرةٍ على تتويجِ الإصرارِ بفَوْزٍ مُحقَّق.
• • •
عضَّةُ كَلبٍ؛ فيلم من إنتاج الثمانينيات، لم أشاهده أبدًا لكني اعتقدت أن في العنوانِ مَجازًا، وأن وراءَ الكلماتِ استعاراتٍ مُركَّبة وكناياتٍ وإسقاطات. قرأت مُصادَفَةً عن الفيلم، فتبيَّنت أن الأمرَ أفكه من تطلُّعاتي، وأن هناك كلبًا بالفعل وهناك عضَّة؛ هي وسيلة البطلِ والبطلةِ للتهرُّب من الوظيفةِ والحصولِ على إجازة. بعضُ المرَّات قد يبني المرءُ تصوراتٍ بعيدة، ثم يُفاجَئ بالحقائقِ أخفّ وأتفه مما بنى. على كلّ حال، استوجَبت عضَّةُ الكَّلبِ في الماضي عددًا كبيرًا من الحقن؛ تتوالى على بَطن المَعضوض في مَواقيت مُحدَّدة، وإلا حاق به خطرُ السُّعار.
• • •
إذا عضَّ القطُّ على يدّ صاحبِه دون أن يُعمِلَ فيها أنيابَه الحادة، أو يصيبها بخدشٍ ولو بسيط، كان سلوكُه هذا دلالةً قاطعةً على رغبتِه في اللَّعب والمُناغشة. تلك عضَّةٌ لا تضُرّ إنما تعكس الدلالَ والوِدَّ، قد تثير القلقَ في المَرَّة الأولى، لكنها تغدو عنوانَ الأُلفةِ والثّقةِ المُتبادَلة بين الطرفين.
• • •
المُلْكُ العَضوضُ هو ما اتَّسم مِن فتراتِ الحُكمِ بعسفٍ وظُلم، والزَّمنُ العَضوض هو الزَّمَن شديد الوطأة؛ فيه يمضي الناسُ مَقهورين أذلَّاء، يُعادي أحدهم صاحبَه ويقِف مَغلولًا أمام قاهِره. ثمَّة مأثورٌ يقول: عضّ قلبي ولا تَعضّ رغيفي ... إن قلبيَ على الرغيفِ رهيف، والقصد أن عضَّةَ الجوعِ أمضى وأشدّ من شتّى العِلل والخُطوب. قسوةُ الفَقر ومَشقَّةُ السؤالِ ومَهانةُ الصَّد؛ تحيل الروح مضغة تهرسها الأنياب وتدهسها الأقدام.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات