إجهاد - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إجهاد

نشر فى : السبت 27 سبتمبر 2014 - 7:35 ص | آخر تحديث : السبت 27 سبتمبر 2014 - 7:35 ص

شكوى واسعة من إجهاد مُستَمر. النصيحة المُعتادة التى يُوَجِّهُها المُستَمِعُ إلى الشاكى أيا كان عمره، أو مجال عمله، أو مدى انشغاله؛ هى الراحة. إجازة يخلو فيها باله مِن المنغصات، يُمارِس هواية يُفضِّلُها، يُجَدِّد حياته ويستعيد النشاط الضائع.

غالبا ما يستمع الشاكى إلى النصيحة ولا يأخذها على مَحْمَل الجَدّ، فالإجازة المُجَرَّبة فى غالبية الأحوال لمرات ومرات لم تَعُد مُجدِية؛ لا الذهن يَفرغُ مِن انشغالِه المزعوم، ولا البال يصفو مِن الغُبار. كلما اجتمعت مع بعض المعارف قال أحدهم لآخر إنّ إماراتِ التعبِ باديةٌ عليه، أو قالت واحدة لأخرى إنّ وجهَهَا يبدو ذابلا، وكلما قابلت أحد الأصدقاء تلقَّيت الكلمات والشكاوى ذاتها، وقد صِرت أنا نفسى بمرور الوقت مِن بين الشاكين.

لاحظت أن حالة الإجهاد المنتشرة تلك، ليست مُرتَبِطة أغلب الأوقات بعملٍ مضنٍ أو جهدٍ شاق، بدنيّا أو عقليّا كان. أغلب المُجهدين لم ينجزوا الكثير فى الفترة الماضية؛ لم ينتهوا مِن خُطَطِهِم المُعَلَّقَة، ولا مِن واجباتِهم التى كان مُقررا لها الانتهاء، سواء على مستوى العمل، أو البيت والأهل والأصدقاء. مُجهَدون متوقفون فى أماكنهم، ومع ذلك يلهثون تعبا، وكأنهم واقعون تحت سيطرة مؤثرٍ خفيٍّ يَمتَصُّ الطاقةَ منهم دون مُقابِل، ويتركهم خامدين.

•••

تحكى صديقة عن حالِها، عن عدم قدرتها على أداء أبسط الأفعال كما لو كانت أعقدها، وعن عزوفها الطارئ عن اتخاذ أية مبادرة. الكسلُ مُستَقِرٌّ، الأريكة أفضل شيء فى الوجود؛ فإن تركتها فإلى المقعد اللَيِّن المريح أو الفِراش. الصحيان دوما يعقبه خمول، لا تكادُ تَمُرُّ دقائقٌ حتّى ينال منها الإرهاقُ دون أن تبدأ أى نشاط مِن أنشطة اليوم. بين ساعة وأخرى ترغب فى أخذ استراحة مِن الراحة.

ما بين تحاليل واختبارات وأشعات لا تُظهِرُ شيئا، انقضت أسابيع، ومِن وصفات كبسولات الفيتامينات والمقويات، إلى أقراصِ المُكَمِّلات الغذائية، ابتلعت الكثير، وأنفقت ما تَيَسَّر مِن نقود، لكن الإجهاد بقى مُقيما لا يُفارِقُها.

يقول المتخصصون إنه مثلما يحدث الإجهاد والإرهاق مِن بَذلِ مجهودٍ شديد، فإنه يحدث أيضا مِن اللا مجهود، ومِن المجهود الضائع فى لا شيء، وإن عدم استطاعة المرء تحقيق النتائج التى يأملها يُسهِم فى مضاعفة الشعور السلبىّ لديه. أشخاصٌ كثيرون مِن بين مَن أعرفهم باتوا مُلتَصِقين بشاشاتِ التليفزيون، وبالآى باد الذى لا يُفارِقُ أيديهم ولو فى ساعات النوم. استقطعوا من وقت الإنجاز وكذلك مِن وقت الترفيه، ليتسمَّروا على المقاعد، مُتابِعين تطورات الأحداث، وقد صاروا فى الأشهرِ الأخيرة مُستَنزَفى الأعصاب، دائمى التَوَتُّر، يثقلهم الشعور بالإرهاق دون أن يغادروا أماكنهم. يكررون الشكوى وهم لا يدركون إنّ اعتلالَ النفس يؤدى إلى تعبٍ بدنيّ مُزمِنٍ، لا تفسره أسبابٌ عضويةٌ.

مجهدون بسبب الإغراق فى استقبال معلومات وتفاصيل كثيرة جدا وصغيرة ومتعاقبة، تحتاج حتما إلى الغربلةِ والتنقيةِ، فنصفها أو أكثر لا معنى له ولا طائل من ورائه، وهى مع ذلك تَحتَلُّ العقلَ وتربكه، وحين تغادره تكون قد نجحت فى جعلِهِ مُجهدا ومُستسلما. مُجهدون لأن ثمة تغيرات سريعة جدا تحدث من حولنا، ولأننا نشعر فى الوقت ذاته أن شيئا لم يتغير. مُجهدون بسبب الحيرة وعدم الفهم، وعند التَمَكُّن مِن الفهم، يصبح للإجهاد مصدرٌ آخر هو عدم القدرة على التصديق، والذهول مِن بعض ما جرى ويجرى، هناك مَن هم مجهدون بسبب عدم وضوح الطريق، وأعرف أن لكثير مِن هؤلاء أحلاما غدت عَصِيَّة على التَحَقُّق، وإن انتظار المَدَدِ الجديد صار بالنسبة إليهم كانتظار جودو؛ انتظار ما لا يجىء.

•••

وقعت على خبرٍ طريفٍ، نشرته بعض وكالات الأنباء منذ شهرٍ أو ما يزيدُ قليلا؛ إذ دعا وزير العمل الألمانيّ إلى تطبيق قانونٍ يُسَمّى «قانون مكافحة الإجهاد»، وقد سُنَّ خصيصا لمنع الرؤساء مِن الاتصال بموظفيهم خارج أوقات العملِ الرسميةِ، ولو عن طريق البريد الإلكترونى، حتى لا تتسبب هذه الاتصالات -غير اللائقة- فى إرهاقهم، وقد أدرك المسئولون هناك إنّه ما لم تَحظْ حالة المرءوسين الذهنيّة والبدنيّة بالاهتمام، فلن يأتى عَمَلُهُم على أكملِ وجه. يبدو أن الإجهاد صار شكوى عامة على اختلاف المُسَبِّبَات والتفسيرات، وعلى اختلاف الحلول أيضا.

اجتمعت لدينا الأسبابُ كلها؛ الماديّ منها والمعنويّ، وباجتماعها صار الإجهاد قاعدة عامة وما غيرها هو الاستثناء، صار أحد المسلمات التى نقبل بها، ونتعاطى معها مثلما نأكل ونتنفس. الاستسلام لحال الاستنزاف النفسىّ الذى يفرضه علينا الواقع أسهل بكثير من محاولة التغيير.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات