«الجابرى» وتدشين مشروع نقد التراث - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الجابرى» وتدشين مشروع نقد التراث

نشر فى : السبت 28 مايو 2022 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 28 مايو 2022 - 8:50 م
ــ 1 ــ
بالتأكيد تمثل كتب المفكر المغربى الراحل محمد عابد الجابرى مكتبة عربية قيمة ومرجعية فى موضوعاتها المعرفية والفلسفية على السواء، ما ألفه وما حققه أو ترجمه يمثل فى مجموعه جهدا جبارا وإنجازا يستحق أن يفخر به صاحبه، لكن يظل من بين كل ما أنجزه الجابرى من كتب ومؤلفات حول موضوعات التراث والحداثة والدولة والديمقراطية والنهضة والتنوير.. إلخ، تظل رباعيته الكبيرة (نقد العقل العربي) هى درة التاج وواسطة العقد بين أعماله قاطبة.
وأقصد هنا برباعية (نقد العقل العربي) الأجزاء الأربعة التالية: «تكوين العقل العربى» (1984)، «بنية العقل العربى» (1986)، و«العقل السياسى العربى» (1993)، وأخيرا «العقل الأخلاقى العربى»..

ــ 2 ــ
أذكر جيدا أن المرحوم الدكتور جابر عصفور وقد كان يحاضرنا فى مادة «مذاهب النقد العربى الحديث» قد توقف مليا أمام اسم «الجابرى» معتبرا محاولته فى قراءة التراث عموما، وإعادة التعرف عليه وترسيم حدوده واكتشاف قوانين تشكله وأنساقه المعرفية من أنضج المحاولات التى تمت فى هذه الدائرة (بدءا من طه حسين ومرورا بشكرى عياد وزكى نجيب محمود وحسن حنفى وعبدالجواد ياسين، وصولا إلى جماعة المفكرين المغاربيين عبدالله العروى ومحمد أركون وهشام جعيط ويوسف الصديق وسعيد ناشيد وكمال عبداللطيف وعبدالمجيد الشرفى.. وآخرين).
كان السؤال الذى يشغلنا وقتها: وما علاقة دراسة النقد العربى القديم بنقد التراث عموما فى جانبه المعرفى أو الفلسفى أو الاجتماعي؟ كان السؤال يبدو بسيطا وساذجا! لكن محاولات الإجابة عنه قادتنا إلى فكرة جوهرية فى دراسة العلوم الإنسانية، وهى أنها رغم تنوعها وتباينها فإنها فى النهاية تندرج فى إطار وحدة موضوعية لا سبيل إلى إنكارها أو التغاضى عنها أو إهمالها!
وبالتالى ترسخت فكرة قراءة النقد القديم والبلاغة العربية فى ضوء علوم التراث ككل؛ فلا يمكن أبدا إغفال تأثيرات علم الكلام والتفسير والعقيدة على مباحث اللغة الأدبية والحقيقة والمجاز والخيال بأنواعه (التشبيه والاستعارة والكناية)، ومن يقرأ كتابى عبدالقاهر الجرجانى الشهيرين «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» لا يمكن أن يستوعبهما أو يتعمق دقائقهما من دون الرجوع إلى السياق العقدى والكلامى والصراع بين المعتزلة والأشعرية لرد الأفكار والتصورات اللغوية والبلاغية والنقدية إلى أصولها الفكرية والثقافية.

ــ 3 ــ
ضمن هذا الإطار العام، وفى دائرة هذه الفكرة الجوهرية، تندرج دراسات وكتابات طه حسين، وأحمد أمين، ومحمد مندور، ولطفى عبدالبديع، ومصطفى ناصف، وشكرى عياد، وجابر عصفور، وعبدالحكيم راضى، مثالا، فى مجال النقد والبلاغة العربيين، وهى دراسات تعتبر رائدة فى مجال اكتشاف العلاقات العضوية بين هذين المجالين وبين غيرهما من مجالات التراث العربى.. ولعل دراسة جابر عصفور «الصورة الفنية فى التراث النقدى والبلاغى عند العرب» هى التى فتحت الباب واسعا لباحثين كثيرين لارتياد مجال الدراسات التراثية مسلحين بهذه الرؤية الكلية الشمولية المنفتحة.
إذن، ثمة خيط فكرى (وهم منهجى) واحد؛ هو قراءة التراث البلاغى والنقدى فى ضوء علوم ومجالات التراث العربى ككل، فالتعدد والتنوع لا ينفى الوحدة فى إطارها النظرى العام، وعلوم التراث ككل تمثل منظومة فكرية واحدة تتجلى فى أنساق وأنماط جزئية متغايرة فى كل مجال معرفى خاص.
كان الجابرى بعمله الفذ والكبير فى (نقد العقل العربي) نموذجا ناصعا على تجليات هذه الفكرة، وبالتالى فعند نظره إلى التراث ينظر إليه فى وحدته الجوهرية، وإن تنوع وتعدد فى علومه ومجالاته وحقوله المعرفية؛ فلا يستغنى الناظر فى التراث النقدى، مثلا، عن النظر فى التراث اللغوى والنحوى والفلسفى والكلامى والأصولى.. إلخ.
يقول الجابرى:
«إن ما نهدف إليه أساسا هو التعرف على (العقل العربي) من خلال القيام برحلة فى (أروقة) الثقافة التى أنتجته، وساهم هو فى إنتاجها وتشكيلها، فالتعرف على الشىء من داخله أفضل بكثير من الوقوف عند وصفه من خارجه، خصوصا عندما يصدر الباحث عن نظرة نقدية. هذا ولا بد من التأكيد هنا من جديد على أن ما يهمنا أساسا ليس العقل كبنية ميتافيزيقية بل العقل كأداة للإنتاج النظرى، كـ (منظومة من القواعد).. قواعد النشاط الذهنى. فكيف يمكن فهم هذه «الأداة ــ المنظومة» إذا لم نتتبعها فى عملها ومن خلال طريقتها فى العمل والإنتاج؟».

ــ 4 ــ
كان الجابرى يعى تماما أن أعماله الفكرية كلها تندرج بصورة أو بأخرى فى إطار الإشكالية العامة المهيمنة على الفكر العربى منذ القرن الماضى، إشكالية التجديد: تجديد هذا الفكر. هذا أمر واضح وعام، بمعنى أن جميع المشتغلين فى مجال الثقافة والفكر فى العالم العربى منذ القرن الماضى منخرطون، بصورة أو بأخرى، فى هذه الإشكالية.
غير أن ما يميز مسار الجابرى عن مسار كثيرين ــ كما وضح هو بذاته ذلك ــ هو أنه بينما يمكن التمييز بوضوح بين ثلاثة مواقف، أو تيارات، يوصف أحدها بأنه «سلفى» والآخر بأنه «تغريبى» والثالث بأنه «توفيقى»، فإنه قد سلك مسارا يخترق هذه التيارات الثلاثة ليتجاوزها جميعا، التجاوز الذى يعنى النفى والاحتفاظ فى نفس الوقت، تجاوزها إلى موقف آخر يعتمد ما يسميه هو بـ«استراتيجية التجديد من الداخل»، وهى استراتيجية تتحرك على ثلاثة محاور متكاملة: محور النقد وإعادة البناء والترتيب لتراثنا الفكرى بمختلف منازعه وتياراته، ومحور التأصيل الثقافى للمفاهيم والمناهج التحديثية وقيم الحداثة المعاصرة، ومحور نقد العقل الأوروبى وتصوراته الموجهة بالمركزية الأوروبية.
كان الجابرى يعى تاريخنا الفكرى، كما ظل يدرس طوال العهود الماضية، هو تاريخ «فرق» وأشخاص، وليس تاريخ فكر. تاريخ يعكس الصراعات السياسية الظرفية التى تمزق الزمن الثقافى، وتجعله خاضعا للزمن السياسى، وتابعا له تبعية مباشرة.