الحضارة المفرقَة - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 9:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحضارة المفرقَة

نشر فى : الأربعاء 28 أكتوبر 2009 - 9:35 ص | آخر تحديث : الأربعاء 28 أكتوبر 2009 - 9:35 ص

 كتب على الجيل الحالى أن يشهد بدايات انتقال الإنسانية إلى حضارة من نوع جديد، تتميز عن كل سابقاتها من عدة وجوه، بما فى ذلك فى بداياتها التى قد تطول لأكثر من جيل قادم، الأمر الذى يجعل من الصعب، بل ومن غير المجدى، إصدار أحكام قاطعة بشأن معالمها النهائية.

ومع ذلك فإن القليل الذى شهدناه حتى الآن يجيز لنا أن نتأمل ما يمكن أن تتخذه تلك المعالم، بحكم سرعة الإيقاع التى شذت بها عن جميع ما سبقها من حضارات، وفى ظل اتساع الشمول من حيث تعرض كوكب الأرض كله لعوارضها، وهو أمر غير مسبوق بالنسبة للحضارات السابقة التى ارتبطت نشأة كل منها بأمة بعينها.

وقد أفضى هذا إلى شيوع الحديث عن تحول كوكب الأرض إلى قرية كبيرة، كناية عن التقارب عبر المسافات، وانتشار المعلومة فى لحظات، ليحيط الناس علما بما يحدث فى أى مكان، وانشغالهم بل وتأثرهم بأمور لا تعنيهم.

الغريب أن هذا التقارب أفضى فى الواقع إلى تباعد لم يكون مسبوقا هو الآخر، على الأقل ليس بنفس القدر. وهو فى أدنى صوره يفصل بين المرء وأخيه، والطفل وذويه.. فشعور الإنسان بأنه يستطيع الاتصال بأى امرئ فى أى مكان يفقده الحرص عن لقائه وجها لوجه.. حتى أن الطفل يدلف إلى فراشه دون أن يحتضن والديه.. وإن شعر بحاجة إلى إلقاء تحية المساء عليهما ألقاها بواسطة المحمول (الخاص به).. وقد يكتفى برسالة مكتوبة إن كان قد امتلك مهارة الكتابة. وهو قد يجد فى التراسل عبر الإنترنت مع أشخاص لا يعرفهم وربما لن يراهم فى حياته، ما يغنيه عن اللهو مع أشقائه وأقرانه. وهو بذلك ينمى خبرة العيش وحيدا مع الناس، وبناء علاقاته معهم على أسس عشوائية، فلا يعود يهتم بمعايير الاختيار. ولعل النكبة الكبرى هى الاستسلام للواقع التخيلى virtual reality الذى يبنيه من خيال لم تنضج مقوماته بعد، ثم يفرض فيه قوانينه الخاصة لتنمو عنده حاسة الانسلاخ عن الواقع، والتغاضى عن قوانين استمدها المجتمع من تجارب صقلتها السنوات والأحداث.

وتكبر عنده أوهام القوة الذاتية التى هى وهن فى وهن. فإن وُفّق إلى ابتكار يستثير الانتباه ويخدم حاجة إنسانية ذات شأن، نمت لديه روح التعالى والخيلاء، إن لم تشأ الظروف أن يكون قد تلقى حظا من التربية، وهو الأمر الشائع هذه الأيام. وأسوأ ما تفرزه الحضارة الناشئة هو تنمية نزعة التجسس من خلال التعامل مع المعلومات والاتصالات، وهى أشد ما يصيب علاقات التحاب والتواد فى المجتمع فيدمرها تدميرا. وقد كانت الولايات المتحدة رائدة فى هذا المجال بأقمارها الصناعية وأجهزة التصنت الدقيقة، وانتقلت العدوى إلى الشباب الذين يتفننون فى صياغة برامج التجسس والتخريب.

على أن أكثر معالم الحياة تأثرا بتقنيات الاتصالات التى تعتبر عصب الحضارة المستجدة هو الجانب الاقتصادى. فقد أدت القدرة على التحكم عن بعد وانتقال الأوامر فى ثوان معدودات وتلقى التقارير وتحليل مضامينها بأساليب متطورة لمعالجة البيانات، أن أصبح فى مقدور هيئة إدارية محدودة الحجم أن تسيطر على عدد كبير من المنشآت المتباينة التخصصات والمنتشرة على أبعاد مترامية وتحكم تصرفاتها من خلال تخطيط إستراتيجى، محكم الحلقات وقابل للتعديل وفق التغير فى المعطيات.

وهكذا طورت عابرات القوميات أساليب عملها وتجاوزت الحدود القطرية والقطاعية، فزادت قدرتها على تخطى القيود التى قد تفرض على نشاطها فى مواقع معينة بنقل أنشطتها منها إلى غيرها أسلس قيادا وأكثر تساهلا وتيسيرا.

وهكذا استطاعت المؤسسات الاقتصادية أن تخرج عن طوع سلطة المجتمع الذى تنطلق إدارتها منه، وأن تروض سلطات مجتمعات أخرى يفرض عليها احتياجها أن تستجيب لمطالبها على حساب رؤاها الوطنية. وأصبحت هذه الأخيرة مجرد مراكز استضافة لمنشآت لا يربط بينها قدر من العلاقات يوازى ذلك الذى يربط بين توابع الشركات العابرة للقوميات. وتوارت الدعاوى التى كانت تتحدث عن النمو المتوازن وعن التكامل فى البنيان الاقتصادى.

وصاحب هذه الظاهرة التى يمكن اعتبارها قائمة على «تفكيك وإعادة تركيب»، ظاهرة أخرى هى التجارة الإلكترونية التى تكاد تضع نهاية للمفهوم المكانى للسوق الذى يجتمع فيه أطراف العرض مع أطراف الطلب، والذى كانت تتابع المعاملات فيه فى حلقات مترابطة. وأصبح قى وسع أى شخص فى أى مكان أن يتعامل فى نفس الوقت مع أطراف تفصلهم عنه مئات الأميال، وأن يقبل شراء بضاعة لم يتفحصها بيديه أو يراها رؤية العين. واجتمعت هذه الظاهرة مع الظاهرة السابقة لتنشأ عمليات سرقة لأدوات الدفع التى يتم بها هذا النوع من التجارة. وفقد المستهلكون إمكانية التصدى لجشع التجار والتفاهم فيما بينهم على ما يعتبر سعرا عادلا، إذ لم تعد بينهم صلات مباشرة، حتى ولو كانوا متجاورين فى نفس الحى أو ربما فى نفس المسكن... فهناك دائما مشترون آخرون يستجيبون لهم.

على الجانب الآخر أمكن من خلال تقسيم الإنتاج إلى مراحل متعاقبة وارتفاع المكون الخدمى فيه إيكال بعض العمليات إلى وحدات فى أقطار بعيدة من خلال أسلوب «التعهيد» للاستفادة من فروق التكلفة أو من مدى القرب من الأسواق. وهناك اتجاه متزايد لإعفاء العاملين فى خدمات معينة من التواجد فى أماكن العمل، اعتمادا على إمكانية التراسل المستمر لإصدار الأوامر عن بعد وتلقّى ناتج العمل. غير أن أخطر صيغ التفتت هى تلك التى أصابت الاقتصادات الكلية، والتى تعتبر إلى حد كبير مسئولة عن الأزمة التى يعيشها العالم الآن. فمنذ نشأة النقود لتُنهى عمليات المقايضة وتُمَكن الناس من حسن توزيع مواردهم عبر الزمان والمكان، كان ينظر إليها على أنها قناع للاقتصاد الحقيقى المتمثل فى السلع والخدمات التى هى المقصودة بالنشاطين الإنتاجى والاستهلاكى.

ومن ثم جرى الحرص على تحديد حجم الإصدار النقدى لاقتصاد معين وفقا لحجم احتياجات تبادل السلع والخدمات فيه، سواء خلال عمليات الإنتاج، أو انتقال المنتجات إلى مستخدميها، مستهلكين كانوا أم مستثمرين فى أصول عينية (إنتاجية أو مساكن). وهكذا ترابطت ثلاث دوائر: الدائرة العينية التى تنتقل فيها السلع والخدمات؛ والدائرة الرأسمالية التى تتداول فيها الأموال المتعلقة بالأصول الرأسمالية؛ والدائرة النقدية التى تتوافق مع حركة الدائرتين السابقتين واحتمالات الانتقال فيما بينهما. غير أن انهيار النظام النقدى العالمى الذى ساد على مدى ربع قرن عقب الحرب العالمية الثانية، دفع موجات تضخمية متتالية استطاعت الدول الصناعية من خلالها ابتلاع قدر كبير من موارد الدول النامية. وسمحت أدوات الاتصال بالغة السرعة بالمتاجرة اللحظية فى العملات مقابل بعضها البعض، وفى صكوك ملكية الأصول بحثا عن ربح سريع بالحركة غير المنضبطة من سوق إلى آخر، لتنمو الظاهرة المعروفة بالأموال الساخنة التى تتحرك على النحو الشائع فى صالات القمار. وهكذا انفصلت الدوائر عن بعضها فاختلت العلاقات بينها، بينما تشابكت عالميا لتنقل الاختلالات فى كل مكان. وصحب ذلك تفاوت متزايد بين مستويات الدخل، داخل كل مجتمع وبين المجتمعات المختلفة، أسوأ ما فيه أن ارتفاع دخل الفرد لم يعد يرتبط بالضرورة بناتج عمل فيه خير للبشرية. وترتب على ذلك تفكك اجتماعى واختلال فى منظومة القيم. ولم يعد هناك من مخرج من هذه التباينات إلا بتغيير جذرى فى قواعد عمل الاقتصاد الرأسمالى، وهو أمر تأباه الرأسمالية الحمقاء.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات