أوباما وأمريكا.. فجوة فى الثقة بالنفس - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أوباما وأمريكا.. فجوة فى الثقة بالنفس

نشر فى : الخميس 29 يناير 2015 - 8:05 ص | آخر تحديث : الخميس 29 يناير 2015 - 8:05 ص

تابعت كعادتى خطاب حال الاتحاد الذى ألقاه الرئيس أوباما قبل أيام أمام مجلسى الكونجرس. تابعته وأنا أعلم أن الخطاب وحده، رغم أهميته، لن يكون الوثيقة الوحيدة التى تسجل إنجازات إدارة أمريكية خلال العام المنصرم، فالخطاب فى مجمله صناعة بيروقراطية وبالتالى يصعب على صائغيه مراعاة الموضوعية. وهو أيضا حق شخصى للرئيس ليترك للتاريخ تقييما بالضرورة منحازا له، فضلا عن أنه حق لحزب الرئيس ليستعد به لانتخابات رئاسية قادمة. وهو فى النهاية طقس من طقوس الوثنية الأمريكية التى تحيط الرئاسة ورموز الشرعية بهالات تقديس وتفخيم. ومع ذلك يبقى الخطاب فى أقل القليل تقرير متابعة ضروريا لكل مهتم بالولايات المتحدة الأمريكية. وفى اعتقادى أن المهتمين مازالوا كثيرين فى شتى أنحاء العالم.

•••

آخذا فى الاعتبار هذه القيود التى تحد من موضوعية خطاب الاتحاد، ومن موضوعية أى خطاب سياسى يلقيه مسئول فى أى مكان، تصبح مهمة تحليل الخطاب مقصورة على الشكليات والاتجاهات العامة، وبعيدة قدر الإمكان عن تفاصيل الإنجازات والإخفاقات، بمعنى آخر تبقى فى إطار الانطباعات. خرجت فعلا بانطباع، أو قل بعدد من الانطباعات، منها أن الرئيس ربما تعمد أن يشيع بين الحضور، وبخاصة بين المعارضين من الجمهوريين ثقته الكبيرة فى نفسه. وقد أفلح فى ذلك، وهو ما عكسته أقلام صحفيين وباحثين كثيرين. تعمد أيضا أن يبدو منحازا للفقراء ولأولئك الأمريكيين الكثيرين جدا الذين يتوقعون أن يكونوا بين الفقراء فى أول إحصاء رسمى قادم. كان لافتا استعاراته لعبارات متعددة سبق أن استخدمها خلال العام الفارط المشاركون فى «انتفاضة وول ستريت». بدا أوباما حريصا على توريط الكونجرس للتعامل مع قضية اللامساواة فى الدخول والاستعداد لمواجهة حاسمة معها فى السنوات القليلة المقبلة. أفلح فى هذا أيضا وبخاصة حين ردد وراءه صانعو الرأى مفاهيم بدت كما لو كانت من صنعه أو من اختياره، مثل مفهوم «اقتصاد الطبقة الوسطى» كبادرة جريئة لوقف الانهيارات الناتجة عن الأخذ طويلا بسياسات نيوليبرالية والقبول بهيمنة تيار متطرف فى النظام الرأسمالى.

•••

كذلك خرجت من جلسة استماعى للخطاب بانطباع أن فى أمريكا من يريد أن ينبه إلى أن الولايات المتحدة لن تكون فى الأجل المنظور «رجل العالم المريض»، وهى الخشية التى تنتاب عددا متزايدا من القوى المحافظة فى أوروبا وآسيا. ليس قدرا أو نتيجة حتمية أن يكون مصير «الإمبراطورية» الأمريكية كمصير الإمبراطورية العثمانية أو السوفييتية فى أواخر عقودهما. الإمبراطورية البريطانية، على العكس، وجدت بين قادتها السياسيين من يعيد توجيه مسيرتها فى الوقت المناسب لتفادى هذا المصير. إلى جانب هذا، مازالت الولايات المتحدة، رغم تقهقرها النسبى، تحتفظ بأرصدة هائلة وقوى بشرية مجددة ومبدعة ومرونة فى الممارسة السياسية تسمح بتغيير المسار، أو إبطاء التقهقر، بل واستعادة المكانة والقوة.

•••

انتظرت بشغف ما ينوى الرئيس أوباما قوله فى معرض الحديث عن السياسة الخارجية.. فكرت طويلا فى الرئيس الذى أصابته سهام كثيرة حملته مسئولية الانسحاب من مواقع نفوذ عديدة فى الخارج. تصورت أنه لن يدع الفرصة تمر دون أن يتوجه للأمريكيين خاصة ولقادة العالم بشرح مستفيض وتبريرات معقولة للتغيرات التى طرأت على السياسة الخارجية الأمريكية، وفى موقع أمريكا فى العالم ومن العالم. هناك بالفعل على أرض الواقع ما يستحق الشرح والتبرير، فقد بدت المشكلات فى الآونة الأخيرة أكبر كثيرا من حجمها، أو لعلها هى بالفعل كبيرة. كوريا الشمالية مثلا لاتزال تشكل تهديدا مباشرا لمصالح أمريكا فى شرق آسيا، وربما فى العالم بأسره إذا افلحت فى نشر خبرتها فى صناعة الطاقة الذرية لأغراض الحرب. أفريقيا تدخل أحد أسوأ مراحل تطورها السياسى والتنموى تحت ضغط الإرهاب ومعه وباء الإيبولا وعودة ظاهرة الانقلابات العسكرية. وفى الشرق الأوسط، تكالبت على الاستقرار السياسى ومصالح الدول العظمى جملة من المشكلات، فى صدارتها مشكلة الدولة الإسلامية المتوسعة والمتفاقمة، وأزمة اليمن بكل ما تعنيه لمنطقة الخليج ومصير طرق الحرير التى تمهد لها الاستراتيجية الصينية والصراع المتصاعد النبرات والأفعال بين إيران والسعودية.

•••

من ناحية أخرى، يتواصل العناد المتبادل بين الرئيسين بوتين وأوباما. أوباما يصر على زيادة الضغط على بوتين بسلاح العقوبات الاقتصادية، وبوتين يصر على زيادة الضغط على أوباما وقادة أوروبا بسلاح «انبعاث القومية السلافية»، والتهديد بإعادة أوروبا إلى عصر كان الظن أنه انتهى إلى غير رجعة. هنا، وأمام هذه المشكلة، لا يبدو الرئيس أوباما فى خطابه قلقا أو منزعجا، بل على العكس، يعتبر الحرب الاقتصادية ضد روسيا انجازا تطلع إلى تحقيقه كثيرون من صناع الرأى ومن أعضاء النخبة السياسية الأمريكية، خاصة وبعد أن تأكد أن الكره لروسيا، شيوعية كانت أم رأسمالية، تجذر فى العقل السياسى، وربما الشعبى، الأمريكى.

•••

استمرار هذه المشكلات والأزمات، لم يمنع الرئيس أوباما من التباهى بأنه حقق إنجازات مهمة فى حقل السياسة الخارجية. جميعها، رغم أهميتها، مازالت محل جدل. تأتى فى مقدمة هذه الإنجازات تحسين العلاقات مع كوبا، وإقامة مناطق تجارية حرة وسحب أعداد كبيرة من جنود أمريكا من أفغانستان والعراق. والسعى الناجح نسبيا، للوصول إلى علاقة استراتيجية مع الهند. إلا أنه مع ذلك تبقى الصين، الإنجاز الأعظم لإدارة أوباما، ومن حقه أن يتباهى به أمام العالم، حتى وإن كان أمريكيون كثيرون يعتقدون أن أوباما فشل فى كبح سرعة الانطلاق الصينى، أو فشل فى تضييق فجوة السرعة بين الصعود الصينى والانحدار الأمريكى.

•••

أعترف بأن اهتمامى بما ورد عن السياسة الخارجية فى خطاب الرئيس أوباما لا يعكس بالأمانة أو الدقة اهتمام الرئيس نفسه الذى ألقى هذا الخطاب. إذ لم تحظ السياسة الخارجية الأمريكية سوى بعشر دقائق من خطاب استمر إلقاؤه حوالى الساعة. ولهذا الأمر دلالات كثيرة أتوقف عندها لأن بعضها ينبئ بتطورات غير مستبعدة. أولى الدلالات، أن المرشحين لمنصب الرئاسة فى الانتخابات بدأوا يستعدون لها بالتركيز على انتقاد السياسات الخارجية لإدارة أوباما. وبالفعل وقع اختيار المرشح ميت رومنى مثلا على مشكلة داعش والإرهاب المتجدد والمتصاعد فى المنطقة، مذكرا أوباما باختلافه معه حين زعم الرئيس أنه بقتله بن لادن قضى على الإرهاب، بينما توقع رومنى وقتها صحوة «رهيبة» للإرهاب فى مدة قصيرة.

وهو ما حدث. وبالفعل أيضا وقع اختيار هيلارى كلينتون على عدد من النقاط فى السياسة الخارجية اختلفت حولها مع الرئيس أوباما عندما كانت وزيرته للشئون الخارجية. ومنها موقفه من الثورة المصرية والإطاحة بمبارك، وكذلك رفضه تسليح المعارضة السورية. ربما دار فى ذهن أوباما أن التركيز على السياسة الخارجية قد يثير شهوة المرشحين لتصعيد مواقفهم خلال الأسابيع القادمة إلى حد يعرقل تنفيذ أوباما لخطوات معينة فى سياسته. يخشى مثلا أن يشمل هذا التصعيد المبكر دعم رومنى لنتنياهو فى موقفه الداعى إلى العودة إلى تصعيد النزاع مع إيران والتوقف عن المفاوضات، وهو الأمر الذى يمكن أن يحبط أحد أهم إنجازات أوباما.

من الدلالات أيضا، انصراف الرأى العام عن الاهتمام بالمسائل والشئون الدولية، يؤكد هذه الدلالة أن الخطاب الأخير تحديدا حقق أقل نسبة مشاهدة جماهيرية بين الخطب المماثلة فى السنوات الماضية. من ناحية أخرى، يبدو معقولا من وجهة نظرى الرأى القائل بأن الأمريكيين وقد انصرفوا عن تمجيد «استثنائية» أمريكا ورسالتها المقدسة إلى العالم وموقعها فى مكان ما «فوق الأمم»، انصرفوا فى الوقت نفسه، عن الاهتمام بأحوال الخارج وقضايا الشعوب وصراعات الدول.

دلالة أخرى محتملة، هى أن الرئيس وإدارته عندما انشغلا بكتابة خطاب الاتحاد لم يكونا قد انتهيا بعد من قراءة الطبعة الأحدث من تقرير «استراتيجية الأمن القومى»، الذى سوف يفصح عن رؤية مختلفة لدور أمريكى فى العالم خلال العقود القادمة. ربما خطر على ذهن مستشارى الرئيس أنه لن يكون من الحكمة أن يناقش خطاب الاتحاد مسائل سوف تتعرض لها استراتيجية الأمن القومى، عند نشرها بعد أيام قليلة من إلقاء الخطاب.

•••

أيا كانت الدلالات، يبدو واضحا أن التحدى الذى لم يحاول أوباما فى الخطاب إنكاره، هو المشكلة الاجتماعية، خاصة وأن احتمالات تدهورها ازدادت ومظاهر بوادرها تعددت.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي