روح باندونج والصعود الصينى - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

روح باندونج والصعود الصينى

نشر فى : الأحد 29 نوفمبر 2015 - 10:50 م | آخر تحديث : الأحد 29 نوفمبر 2015 - 10:50 م
هل مازال لروح باندونج صدى فى القرن الحادى والعشرين بعد مرور ستة عقود على الصيحة التى أطلقتها دول آسيا وأفريقيا المتحررة من السيطرة الاستعمارية عندما اجتمع زعماؤها فى تلك المدينة الإندونيسية فى أبريل 1955. يحمل جيل المصريين الذين تفتح وعيه فى خمسينيات القرن الماضى اعتزازا خاصا بهذه الذكرى، فقد كانت أول علامات النهج المستقل الذى اتخذته مصر فى سياستها الخارجية بعد ثورة يوليو 1952، ليس لأن جمال عبدالناصر رئيس وزراء مصر فى ذلك الوقت شارك فيها مع أبرز زعماء حركات التحرر الوطنى فى القارتين، وفى مقدمتهم جواهار لال نهرو رئيس وزراء الهند وشوإين لاى رئيس وزراء الصين وسوكارنو رئيس جمهورية إندونيسيا، بل لأن المؤتمر أتاح لعبدالناصر لقاء شوإين لاى ومفاتحته فى إمكان حصول مصر على سلاح سوفيتى، وهو ما توج بعد ذلك بعقد صفقة الأسلحة السوفيتية التى كسرت احتكار الغرب للشأن العسكرى فى الشرق الأوسط ومعه السيطرة على جيوش المنطقة، ومن ثم كان إبرام تلك الصفقة تحديا عمليا لمكانة الاستعمار فى إقليم له أهميته الاستراتيجية فى ظل الحرب الباردة التى كان يستعر أوارها فى ذلك الوقت. وبعيدا عن هذا الإطار المحلى، كان مؤتمر باندونج دعوة للتحرر من نظام عالمى جائر ببقاء الإستعمار بصورته التقليلدية فى معظم القارة الإفريقية شمالا وجنوبا وفى الخليج العربى. هذه الدعوة لإستعادة روح باندونج ترددت هذا العام بقوة مع الإحتفال بمرور ستين عاما على إنعقاد هذا المؤتمر، وسمعها من المسئولين الصينيون المشاركون فى مؤتمر حضرته الأسبوع الماضى مع عشرات من المفكرين والدبلوماسيين فى بكين بدعوة من حكومتها.
طرح المسئولون الصينيون الذين شاركوا فى هذا المؤتمر رؤيتهم لروح باندونج التى تقوم على التضامن والتعاون والإحترام المتبادل بين شعوب العالم، وأكدوا أن سياستهم الخارجية التى تترجم إيمانهم بضرورة التعاون بين دول الجنوب، والتى تضم إلى جانب دول آسيا وأفريقيا دول أمريكا اللاتينية كذلك، هى التعبير العملى عن روح باندونج هذه. ولقد أنجزت الصين بالفعل الكثير فى هذا المجال، ليس فقط من خلال زيادة تبادلها التجارى وإستثماراتها فى دول القارات الثلاث، ولكن كذلك من خلال تقديمها للمعونات الإنمائية، وإنشائها مع دول مجموعة البريكس، التى تضمها مع روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا مصرفا دوليا لتمويل مشروعات البنية الأساسية فى دول الجنوب، وتخصيصها صندوقا لدعم دول الجنوب رأسماله الأولى ألفان من مليارات الدولارات، ولكن كذلك من خلال العمل الدبلوماسى لتوثيق التعاون مع هذه الدول، فهى تلتقى من خلال تجمعات آسيوية بالدول الآسيوية، وستلتقى خلال أيام قليلة بقادة الدول الأفريقية فى مؤتمر قمة دعت إليه مع حكومة جنوب أفريقيا وتستضيفه الثانية.
***
هذا التوجه نحو دول الجنوب لا تنفرد به الصين وحدها، ولكنها تشترك فيه مع عدد آخر من دول الجنوب الأكثر تقدما من الناحية الاقتصادية. فكل من الهند والبرازيل تسيران على نفس الدرب، ومعهما دول أخرى مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية. وقد أصبح صعود دول الجنوب ونمو التعاون فيما بين دول الجنوب عموما ملمحا مهما من نظام عامى جديد تتشكل معالمه تدريجيا، ويحل محل النظام القديم سواء فى شقه الاقتصادى الذى اتسم بسيطرة دول الشمال، أو فى شقه السياسى الذى طغا عليه الصراع بين معسكرين متنازعين فى ظل الحرب الباردة، ولكن الصين تنفرد بضخامة حجم أنشطتها الاقتصادية فى دول الجنوب، وبكثافة عملها الدبلوماسى فى هذا الإطار، وبخطابها الذى يضع هذا النشاط ضمن توجه صريح إلى هذه الدول بأن تجد فيه على الأقل تعويضا عن الشروط غير العادلة التى تفرضها عليها دول الشمال فى تعاملاتها الاقتصادية، وذلك إن لم يكن بديلا كاملا عن هذه التعاملات. بل وتضيف الصين إلى ذلك رفضها للدعوات الغربية لنشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان باعتبارها تدخلا فى الشئون الداخلية لدول الجنوب ومحاولة من دول الشمال لفرض نموذج واحد للمجتمع على تلك الدول.
هل تمثل هذه الدعوة الصينية لتعزيز التعاون بين دول الجنوب إحياء صحيحا وخالصا لروح باندونج أم أنها ستار جذاب يخفى من ورائه سعى الصين ذات القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية لتوطيد مكانتها على الصعيد العالمى وترسيخ سيطرتها على الموارد الطبيعية فى دول الجنوب؟ وهل تكون الدعوة لتعاون الجنوب الجنوب صعودا جماعيا لدول الجنوب تستفيد منه كل أو معظم دوله أم أنها تخفى وراءها قفزة منفردة للصين بينما لا تكاد دول الجنوب الأخرى تغادر مواقعها فى علاقات التبادل اللا متكافىء التى تصم الاقتصاد العالمي؟ إذا كانت روح باندونج تعنى أمرا فى ظل الأوضاع العالمية فى القرن الحادى والعشرين، فهو التحدى لنظام عالمى جائر. فإلى أى حد تتفق دعوة الصين هذه مع تلك الروح؟
***
إن الإجابة على هذه الأسئلة تتوقف على أربع إعتبارات مهمة هى أن يختلف نمط تعامل الصين مع دول الجنوب عن النمط المعهود لعلاقات الشمال والجنوب، وأن يقترن هذا التعاون ببلورة نموذج تنمية بديل عن النموذج الغربى، وأن يكون هذا النموذج طفرة على صعيد احترام الكرامة الإنسانية، وأن يكون نمط تعامل الصين مع غيرها من دول الجنوب متفقا مع روح باندونج التى ترفض السيطرة الإستعمارية وتدعو للاحترام المتبادل بين الشعوب.
لقد اتسم نمط السيطرة الإستعمارية على دول الجنوب بالتبادل اللامتكافىء من خلال نظام لتقسيم العمل الدولى تنتج فيه دول الجنوب المواد الخام تحت سيطرة شركات دول الشمال لتصديرها لتلك الدول بينما تستورد منها البضائع المصنوعة، وتخسر فى هذا التبادل قدرا من مواردها بحكم سيطرة شركات الشمال على التجارة العالمية وتفقد مع ذلك فرص إنطلاقها على طريق التصنيع وتنويع هياكلها الإقتصادية. فهل سيختلف وجود الشركات الصينية فى دول الجنوب عن هذا النمط؟. يبدو حتى الآن أن اهتمام الشركات الصينية هو باستغلال الموارد الطبيعية فى دول الجنوب، وخصوصا فى الدول الأفريقية، وبمساعدتها على تشييد مرافقها الأساسية من طرق وسكك حديدية تخدم مواطنيها كما تخدم تجارتها الخارجية. صحيح أن الصين لا تمانع فى المشاركة فى التصنيع فى هذه الدول، وأن معونتها غير مشروطة، ولكن قد لا يكفى للقول بأن محصلة تعاون الجنوب الجنوب ستكون فى نهاية الأمر مختلفة عما أدى إليه تعامل الشمال مع دول الجنوب من حيث ترسيخه لنمط فى التقسيم الدولى للعمل بين دول منتجة للمواد الخام ودول أخرى مستوردة لها ومصدرة للبضائع المصنوعة. كل ما فى الأمر أن هذا النمط سينتقل إلى داخل الجنوب بعد أن تحول الشمال إلى قطاع الخدمات والصناعات المتقدمة ذات القيمة المضافة العالية.
والإعتبار الثانى هو أن يقترن تعزيز تعاون الجنوب الجنوب ببلورة نموذج إنمائى يكون بديلا مقبولا للنموذج الإنمائى الذى تدعو إليه مؤسسات الشمال مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، والذى أسفر تطبيقه فى معظم دول الجنوب عن إزدياد إنكشافها أمام تقلبات السوق العالمى، وإرتفاع معدلات البطالة بين مواطنيها واتساع التفاوت بين الدخول والثروات بينهم باستثناء قلة محدودة بين هذه الدول، بل لقد أصبحت الصين ذاتها تعرف بعض هذه السمات خصوصا باتساع الفجوة فى توزيع الدخل والثروة بين مواطنيها وأقاليمها، ولا يكاد نموذج التنمية فى الصين فى تطوره بمضى الوقت يختلف عن النموذج الرأسمالى إلا فى كون السيطرة السياسية تنعقد فيه للحزب الشيوعى.
***
وفضلا على ذلك فلا يجب أن يقترن النجاح الاقتصادى لهذا النموذج البديل بامتهان كرامة البشر بحرمانهم من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية الأساسية. صحيح أنه من المقبول نظريا أن هناك طرق متعددة لممارسة هذه الحقوق بخلاف النموذج الذى يسود فى الدول ذات النظام الديمقراطى بسماته المعروفة، ولكن يجب أن يكون هناك الدليل على أنه بغياب تعدد الأحزاب وعدم إطلاق الحرية لمنظمات المجتمع المدنى ووقف إحتكار العمل السياسى من جانب حزب واحد سوف يتمتع المواطنون بحريات الاعتقاد والتعبير والتنظيم، وهى حريات بدونها يصعب القول بأن كرامة البشر مصونة.
وأخيرا سوف يتأكد احترام الحكومة الصينية لروح باندونج عندما تقوم علاقاتها مع جيرانها ودول العالم الأخرى على الاحترام المتبادل، وعندما يتوقف تعاونها العسكرى وعلاقاتها المتميزة مع حكومة تحرم شعبا آخر من حقه فى تقرير المصير مثلما تفعل الحكومة الإسرائيلية.
بدون الوفاء بهذه الإعتبارات الأربع سيكون الحديث عن تجديد روح باندونج خطابا لا يصلح إلا للدعاية السياسية، دون أن يكون له ظل على أرض الواقع.
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات