الأمومة.. صراع مع الذات والآخر - العالم يفكر - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 9:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأمومة.. صراع مع الذات والآخر

نشر فى : الأحد 30 أغسطس 2020 - 7:55 م | آخر تحديث : الأحد 30 أغسطس 2020 - 7:55 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة رفيف رضا صيداوى.. جاء فيه ما يلى.

«حين نولد، ويأخذنا البكاء الأوّل لإدراكنا أنّنا قد وطئنا وادى الدموع، ترمينا يدُ الطبيب على صدور أمّهاتنا ليطبعْن راحة أكفّهنّ على ذاك المربَّع. هكذا، يُفتح القلب وتشتغل الرئتان وتنتعش الأعضاء، فيدخل الأكسجين وتدبّ فينا الحياة. مَن لا تضع أمّه يدها على المربّع السرّى الذى فى ظهره، وتدلّك وتُداعِب، تتكفّل به الحياة وتمنّ عليه بنبضها، كما تتكفّل آلةُ إنعاشٍ بمريض، وتمنّ عليه بالدمّ والأكسجين، فيصير رقما فقَّسته الحياة، دونما هويّة تُعرِّف به، أو أهل ينسبونه إليهم». هكذا عبَّر «مستر نون» الشخصيّة الرئيسيّة فى رواية نجوى بركات الأخيرة، والتى تعانى من اضطّرابات نفسيّة، عن النقص العاطفى الذى رافقه منذ الولادة نتيجة نبذ أمّه له وتفضيلها أخاه عليه.
اخترتُ البدء بهذا الاستشهاد من رواية نجوى بركات لكونه من أجمل ما قرأت عن أهمّيّة الأمّ فى تشكيل شخصيّة الأبناء وهويّاتهم، وبالطبع توازنهم النفسيّ، فى الوقت الذى ينأى فيه النموذج الأمومى فى رواية بركات عن الأسطرة والقداسة اللّتَين نضفيهما على هذا الدَّور فى الغالب. ولسنا نميل هنا إلى التحليل النفسى لمسألة الأمومة والبنوّة، ولا إلى التشديد على الحبّ الذى يجمع الأبناء بأمّهاتهم أو العكس، فحيوات عيّنة من الأدباء والشعراء وكِبار الكتّاب تُطلعنا على أنّهم بغالبيّتهم تقاسموا لحظات مميّزة وخاصّة مع أمّهاتهم، وأنّ صعوباتٍ ظهرت لاحقا، وفرَّقت الخلافات أحيانا بينهم وبين أمّهاتهم، لكنّ الشعور الذى لا بديل له بحبّ لا تحدّه حدود لم يختفِ أبدا.

ولعلّنا لا نميل كذلك إلى تبيان دَور الحبّ أو عاطفة الأمومة فى بناء شخصيّة الطفل/الراشد لاحقا وفى إشباعه العاطفى، كما عاطفة الأبوّة، بل نميل هنا إلى وضْع «الأمومة» فى السياق الاجتماعى الثقافى الذى يُأسطرها ويسمو بها إلى مرتبة القداسَة ما يجعل كلّ تصرّف أو سلوك، يخرج عن سلّم معايير «الأمومة النمطيّة» سلوكا «مرذولا» و«بهيميّا» و«شيطانيّا» حتّى ولو كان هذا السلوك لا يخرج، فى المبدأ، عن سلّم المعايير هذا، بل لأنّه لا يُحقِّق أحيانا المراتِب الأعلى فيه.

***

سرديّات كتابة الأبناء عن أمّهاتهم فى المخزون الثقافى الغربى والعربى كثيرة، سواء ببُعدها التخييلى القصصى (والروائى والسيرى الروائى... إلخ)، أم غير التخييلى (سيَر وسيَر ذاتيّة غير روائيّة ومذكّرات ورسائل... إلخ). لكنّها بغالبيّتها تمجِّد الأمّ والأمومة، ولا تحيد عن هذا التمجيد إلّا عبر التورية، وبالقدر الذى يوفّره مجالُ التخييل، حيث لا لوم ولا أحكام قيمة. ويصحّ الشيء نفسه على المقلب الآخر، أى فى سرديّات كتابة الأمّهات عن تجربتهنّ ومُمارساتهنّ للأمومة.
هذه الإشكاليّات كلّها هضمتها الكاتبة والناقدة اللّبنانيّة يُسرى مقدّم، وترجمتْها بجوارحها فى عملها السِّيَر ذاتى «صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر»، النّابض بعاطفة أموميّة جيّاشة لكن مُعقْلَنة. وقد تمحور هذا العمل الإبداعى حول مفهوم الأمومة فى مجتمعاتنا وما يفضى إليه من صراع مع الذّات والآخر، ولاسيّما إذا خرجت العلاقة بين الأمّ ومولودها عن الأمومة النمطيّة، حيث العطاء غير المشروط والتفانى إلى حدّ إلغاء الذّات. تُناجى الكاتبة والدتها سكنة المتوفّاة وتقول: «كلُّ شيء يبدأ بك يا أمّى، لذا أرانى أحاكمك وأقسو، وبالقسوة نفسها أحاكم نفسى. كلتانا كانت فى تولّى أمومتها فاعلةً ومنفعلةً، على تبايُن الدوافع والأسباب. فبينى وبينكِ صراعات بالجملة، وليس للحبّ الرّاسخ بيننا أن يُسقطها أو يُبدّدها، كما ليس لجرعات الحبّ المفرط أن تطيح بالخوف مهما يكُن منبته أو وجهته!». لكنّ جرعات الحبّ الزائدة والتضحيات الجليلة التى قدّمتها سكنة لأطفالها الخمسة، هى التى ترمَّلت فى مطلع عشرينيّاتها، ولَّدت لدى يُسرى، التى تيتّمت بعد شهور قليلة من ولادتها هى وأختها التوأم، شعورا بالذنب بسبب رسوليّة أمّها التى لُقِّبت بـ «العذراء مريم»، سالكةً طريق «الإماتة» من أجل الأبناء وحرمان الذّات من مَباهج الحياة. وكأنّ هذا الشعور نما فى بيئته الحاضنة، حيث لم يكُن بوسع يُسرى الأمّ لاحقا، الثائرة والمتعلّمة والعاملة، التماهى مع نمط الأمومة هذا، فأضناها شعورها بالتقصير: «لستُ أقاضيكِ يا أمّى بذنب الطاعة، أو الخوف، أو الإيمان، لستُ أقاضيكِ، لأنّك كنتِ لى المعلّم الأوّل، بل لأنّكِ كنتِ الاستثناء، فى ما اخترتِ واختبرتِ، فصعَّبتِ عليّ دَور الأمومة (...) كرهتُ ميراث الإماتة يا أمّى (...) أيُّ حبّ هو هذا الذى نرثه عن أمّهاتٍ يحترفن موتهنّ الخاصّ؟ وأيّ أضاليل مُخترَعة نصدّقها ونخدع بها عقولنا كى تدوم الأمومة قدسا لا يُمسّ؟».

سيرة أمومة «فى الهامش»
سيرة يسرى مقدّم هى سيرة أمومة «فى الهامش» ــ على حدّ تعبير الشاعرة والكاتبة المصريّة إيمان مرسال فى كتابها «كيف تَلتئِم: عن الأمومة وأشباحها» ــ لإفصاحها عن الخَوف والصراع والقلق وغيرها من المَشاعر الكثيرة المعبّرة عن آلام الأمومة الثائرة، ولاسيّما الشعور بالذنب الناتج أساسا عن رفض النساء/الأمّهات الامتثال لنموذج «الأمّهات المريميّات» الذى خضعت له أجيالٌ منهنّ، على اختلاف ظروفهنّ الخاصّة والأسريّة والمُجتمعيّة، مؤدّيات أدوار البطولة التى رسّخها الوعى واللّا وعى الجمعيّان. فلأمومةِ الثائرات على قيَم التضحية غير المشروطة، وإلغاء الذّات والكيان الشخصى، والطاعة المُطلقة لمعايير المجتمع، وهى القيَم التى أدرجتها يسرى من ضمن «ثقافة القفص»، فاتورته الثقيلة والباهظة أيضا على الذّات النسائيّة. أى حين «ترفض الأمّ أن تكون بيضة يشرخها المولود فى طريقه لحياته»، وهى الاستعارة المجازيّة التى حبكتها إيمان مرسال انطلاقا من مقطع قصيدة للشاعرة البولنديّة أنّا سوير، نُشرت لأوّل مرّة فى بداية السبعينيّات، أى بعد تجربة الولادة بثلاثين عاما، تتحدّث فيه إلى ابنتها المولودة للتوّ:
أقول: «أنتِ لن تهزمينى، لن أكون بيضةً لتشرخيها، فى هرولتكِ نحو العالَم. جسر مشاة تعبرينه، فى الطريق إلى حياتِك، أنا سأدافع عن نفسى».
قد تكون الأمومة «التمرينَ التطبيعيّ الأشدّ فاعليّة وتأثيرا فى تطويع النساء الأُمّهات واستدراجهنّ إلى «قفص الطاعة» صاغرات، قانعات، أو ربّما قانطات» تقول يسرى مقدّم، ذلك أنّ أيّ مقاومة لعدم دخول هذا القفص تُعتبَر حتّى من طرف الأبناء نكرانا لهم أو جفاءً أو أنانيّة. «ثقافة الطاعة» أو «ثقافة القفص»؛ إذ تولِّد صراعا لدى الأمّهات الثائرات، ليس الشعور بالذنب إلّا أحد وجوهها، نراها تستحوذ على الأبناء أيضا الذين، ومهما اختلفت الأجيال، يُطالبون بنمط الأمّ «الأزليّة»، المُضحّية من دون حدود.
جريئةٌ سيرة يُسرى مقدّم فى تعبيرها عن الصراع الخفيّ وغير المُعلَن أحيانا الذى يحكم علاقة الأمّهات والأبناء. ففى تأرجحها بين ماضٍ كانت فيه ابنة وحاضرٍ أمست فيه أمّا لشابٍّ وفتاتَين، قرّبتنا من علاقة حميمة جدّا وذاتيّة جدّا بين الأمومة والبنوّة. علاقة تحدَّدت مرجعيّتها من جدّة يسرى التى زوّجت ابنتها ولم تكن قد بلغت الحيض بعد، فقطعت عليها هذه الابنة، أى سكنة، الطريق بعد ترمّلها لكى تكفّ عن حصارها وعن رسْم مَسار حياتها مجدَّدا، واهبةً حياتها لأبنائها الخمسة، ومُحفِّزةً الإناث على أن يكنّ أحرارا. لكنّ الثمن الغالى الذى دفعته سكنة من حياتها، كنبع حبّ وعطاء متدفّق ومن دون حساب، ولَّد لدى يسرى هذا الشعور الكبير بالذّنب الذى أشرنا إليه، المُعزَّز باتّهام الأبناء أمّهاتهم بالأنانيّة والتخلّى، ولاسيّما من طرف ابنة أصبحت بدَورها أمّا ويبدو أنّها تُطالب أمّها بتبنّى مُمارسة طقوس الأمّهات والجدّات المُتفانيات، ربّما بشكلٍ غير إراديّ أو غير واعٍ، كفعلِ استبطانٍ لقيَم المُجتمع البطركى الذكورى وكتواصلٍ مع مفهومه للأمومة ومَعاييرها، وبما يُعزِّز كلّ أشكال التوتّر فى العلاقة بين الأمّهات والأبناء تارةً، ومن سوءِ فهْمٍ تارة أخرى على علاقة بالمرجعيّة التى شكّلت أمومتنا، والتى لا فكاك منها، باستثناء حوّاء التى قد تكون «المرأة الوحيدة التى مرّتْ بخبرة الأمومة من دون أيّ ذاكرة شخصيّة أو جماعيّة عن كونها بنتا لأمّ، من دون مرجعيّة تستضيء بها».

جريئة سيرة يُسرى مقدّم وصادقة وحرّة. وهى فى كشفها عن أسرار أمومتها الذاتيّة تقدّم لنا عملا إبداعيّا غنيّا بما تحمل جدليّة الأمومة والبنوّة فيه من دلالاتٍ نفسيّة واجتماعيّة.

يضرب هذا العمل إذن على وَتَرٍ شديد الحساسيّة، وَتَر الأمومة التى يتمركز فيها الشعور بالذنب ويتعايش مع حبّنا الأبدى لأبنائنا، فيما الذنب كما تقول يسرى مناجيةً أمّها: «قصاصٌ عسير يصعب الفكاك منه حين نرثه بمشيئةٍ قدريّةٍ تحتّمُ ما يرسّخه، ويُضاعف، بالتواتر الزمنى، دوائرَه وانسحاباتِه، ومُستلحقاتِه!».

النص الأصلى

التعليقات