التنمية: جولة فى المفاهيم والمصطلحات - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التنمية: جولة فى المفاهيم والمصطلحات

نشر فى : الإثنين 31 أغسطس 2015 - 6:50 ص | آخر تحديث : الإثنين 31 أغسطس 2015 - 6:50 ص

قد أشرنا سابقا إلى بعض الآراء التى وجهت الانتقاد إلى ما شاب معالجات عملية التنمية من نواحى قصور، وطالبت بتصويب مقارباتها لتدعم مسيرة مجتمع ما بعد الثورة وتمكينه من اختصار الطريق إلى تحقيق أهدافها. ونطرح هنا السؤال الأساسى: ما هو مفهومنا لما نطلق عليه اسم «تنمية» وإلى أى حد يكون المصطلح واضح الدلالة وفق تصور العامة والمختصين؟ ويدعونا الأمر إلى التعرض للمسميات باللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية (الفرنسية) لأنها التى نرجع إليها سواء فى المناقشات العلمية أو فى المداولات العالمية التى قادتها هيئة الأمم المتحدة.

***

كان من الشائع التعبير عن التوسع أو التزايد فى حجم أو قيمة ظاهرة تتغير مع الزمن بالنمو growth، مثلا النمو السكانى ويقاس بمعدل الزيادة (السنوية عادة) فى عدد السكان بالنسبة إلى العدد السابق. وعلى الباحث أن يدرس العوامل التى تسببت فى تلك الزيادة (مواليد، وفيات، هجرة). وعلى المسئولين أن يدرسوا العوامل التى حددت كلا منها، واتخاذ ما يلزم للتأثير على ذلك النمو، وفقا لاختيارات نتمناها. وعندما اتجه الاهتمام إلى دراسة الدخل القومى بدأ الحديث عن معدل نموه، ولتقييم دلالة هذا الأخير، جرت مقارنة المعدلين واستخلاص «معدل نمو دخل الفرد» ولتبين مدى نجاح الاقتصاد القومى فى تحسين أوضاع السكان، باعتبار أن قيمته تؤشر لمدى التحسن فى مستوى معيشة الفرد بوجه عام أى نصيبه من الاستهلاك النهائى. وعندما تعرضت الاقتصادات الصناعية المتقدمة لتقلبات دورية عنيفة خلال عقد الثلاثينات فيما بين الحربين العالميتين وأصيبت اقتصاداتها بكساد كبير دخلت معا فى حروب تجارية لحماية صناعاتها الوطنية وتشغيل طاقاتها المتعطلة. ودعا الاقتصادى البريطانى روبرتسون فى 1938 إلى تحرير التجارة العالمية بدعوى أن «التجارة هى محرك النمو»، وهو ما انتقده فيما بعد الاقتصادى العربى يوسف صايغ بقوله إن الإنتاج هو محرك النمو، أما التجارة فهى العجلة التى تزيد من سرعة دورانه. من جهة أخرى اهتم اقتصاديون آخرون بقضية تعزيز الطلب لتدور عجلة الاقتصاد القومى ويزداد تشغيل الطاقات الإنتاجية المعطلة، وكان فى مقدمتهم لورد كينز الذى استلهم سلوك الفراعنة بناة الأهرام الذين كانوا يفتحون مجالا بمزارعين فى فترة التحاريق فيوفرون لهم فرص عمل والحصول على أجور تساهم فى الطلب على منتجات أنشطة أخرى.

وتبع ذلك تجاوز أسلوب التحليل الاستاتيكى الذى يهتم بقضية تحقيق التوازن بين جانبى العرض والطلب وما يعرف باقتصاديات السوق، واستخلاص السياسات التى تكفل استمرار استقرار السوق، أو انتقاله إلى وضع آخر مستقر. غير أن تقلبات الاقتصادات الصناعية وتوالى الدورات التجارية دعت إلى التعامل مع الظواهر الاقتصادية بصورة ديناميكية، تتعامل مع ما يعبر عنه التحليل الإحصائى فى معالجته التغيرات فى حركة السلاسل الزمنية من التمييز بين تغيرات عارضة وأخرى منتظمة، والتغيرات الدورية وما يسمى الاتجاه العام. وكان الاقتصادى النرويجى الشهير راجنر قريش سباقا فى معالجتها فى إطار اللجوء فى 1933 إلى التحليل الديناميكى بالتمييز بين قضايا الاطراد propagation وقضايا الدفع الخارجى impulse. وحينما اتجه الاهتمام إلى مجال التنمية جرى التمييز بين منهجين: الأول هو النمو growth الذى اهتمت به الدول المتقدمة لمواصلة تقدمها فى أعقاب الحرب، فصيغت نماذج تظهر أن معدل النمو هو محصلة تفاعل ما يوجهه المجتمع من مدخراته إلى الاستثمار فى طاقات جديدة، وإنتاجية هذا الاستثمار وفقا للاعتبارات الفنية التى تحكم الأنشطة التى يتم الاستثمار فيها. والثانى هو مصطلح development الذى تتردد ترجمته إلى تنمية، إلا أن قليلا من التأمل يظهر أن الاختلاف يدعو لتفرقة رباعية لا ثنائية: الأول هو بين النمو (الذاتى growth) كما عرفناه والتقدم development، وبموجبه يجرى التمييز بين دول متقدمة وأخرى متخلفة underdeveloped وهو الأمر الذى أخذت به مداولات هيئة الأمم منذ نشأتها فى 1945 حتى العام 1960. ويتفق هذا ما ساد الفكر الغربى من اهتمام بعملية الارتقاء منذ طرحها علماء التاريخ الطبيعى، وخاصة داروين. وقد استنكر أبناء الدول المنعوتة بالمتخلفة هذا التمييز الذى يلصق بهم صفة فرضها الاستعمار والتبعية. وحينما حاول مواطنو هذه الأخيرة التخلص من تلك الصفة بدأ الفكر يتجه إلى الثنائية المقابلة لثنائية النمو والتقدم بصورة اطرادية، بدأ الحديث عنهما بصورة عمدية. فمقابل النمو التلقائى هناك تنمية عمدية تقتضى تدخلا قويا من خارج البنيان الاقتصادى. ومقابل التقدم الاطرادى هناك تصرف عمدى ينقل الاقتصاد من طور إلى آخر، أى التميز بين تطور وتطوير. ويذكر للكاتب الأمريكى (من أصل نمساوى) جوزيف شمبيتر أنه عزاها التطور إلى فئة رائدة هب المنظمين الذى يحيلون أفكارا جديدة إلى نشاط يجذب لها أموال مدخرين يقومون بالاستثمار فيها. وكان لنا نموذج مبكر فى شخص طلعت حرب حين روج لأنشطة وطنية لم يكن لها ما يوجه إليها الاهتمام فى نطاق الاقتصاد المحلى محدود القدرات الفنية والمالية.

***

غير أن هيئة الأمم المتحدة حينما عنيت بشؤون الدول المتخلفة ومتطلباته من عون دولى، صاغت استراتيجية تنمية للستينات حددت فيها أهدافا لا تراعى خصوصيات كل دولة ولا مدى توفر قدرات ملائمة لمؤسساتها الناشئة. وجاهدت مجموعة عدم الانحياز لاستصدار قرار فى 1974 بنظام دولى جديد يمكنها من السيطرة على مواردها المنهوبة. ومن سوء الحظ أن جاء ذلك فى عقد تعثرت فيه اقتصادات الدول المتقدمة وساد تضخم ركودى ساهم فى رفع التكاليف الاستثمارية وتضييق الأسواق أمام منتجات الدول التى وصفت بأنها نامية (أو فى طريقها للتقدم وفق التعبير الفرنسى). كما جرى انتقاد الاقتصار على استهداف زيادة الإنتاج والاستهلاك، والفشل فى التوفيق بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، مما أفضى إلى تنمية معوجة distorted development سواء فى الدول المتقدمة أو النامية، وعبر ددلى سيرز عن ذلك فى 1970 بكون إهمال قضايا التوزيع أدى إلى عدم تساقط trickle down ثمار التنمية على الفقراء وحدوث تباين شديد فى توزيع الدخل والثروة، واتساع نطاق الفقر المطلق وفق بيان مدير البنك الدولى مكنمارا فى 1972. وعجزت الصناعات المتطورة عن توفير فرص عمل كافية. ويوحى هذا بأن التنمية انحصرت فى طبقة عليا قادرة، وبتكليف من البنك الدولى قاد الاقتصادى تشنرى مجموعة توصلت إلى إمكانية مواصلة النمو إذا اقترن بإعادة توزيع الدخل، وكأن القضية ليست فى مضمون نمو الإنتاج بل فى توزيع عائداته. وطالب البعض بأن يكون النمو من أسفل، دون بيان كيفية انسياب عائداته إلى أعلى. وكان لابد من مراجعة محتوى الإنتاج لا مجرد إعادة توزيع الدخل.

ونشأ تياران: الأول تبنته منظمة العمل الدولية فى 1976 ينادى بتوجيه الإنتاج لإشباع الحاجات الأساسية، التى طور بول ستريتن فى 1981 نطاقها لتشمل متطلبات تطوير الإنسان، وهو ما دفع فيما بعد إلى الاهتمام بالتنمية البشرية. أما الثانى فدعا إلى التنمية بالاعتماد على النفس، وأيدت الأمم المتحدة تعزيز الدعوة إلى الاعتماد الجماعى على النفس. غير أن ما زاد الأمور تعقيدا صعود الفكر النقودى فى السبعينات بقيادة فريدمان وآخرين فى الولايات المتحدة التى كانت السبب فى إيقاف عجلة التنمية فى معظم أرجاء العالم الثالث خلال الثمانينات.

وشيئا فشيئا ثبتت صحة المقولة التى أطلقتها فى 1961 بضرورة التمييز عند تخطيط التنمية من البدء بما يسمى التخطيط الهيكلى الذى يعيد بناء مؤسسات الدولة التنفيذية والمدنية لتصبح قادرة على إحكام عملية التخطيط الوظيفى، والحديث عن تمكينها من توفير متطلبات الكفاءة والكفاية والعدل. وهو ما يعيدنا إلى أهمية الانطلاق من استراتيجية قومية تشكل الشؤون التنموية بمعناها الواسع قاعدة أساسية لها.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات