زار ولى العهد رئيس الوزراء السعودى الأمير محمد بن سلمان واشنطن فى الفترة من 17-19 نوفمبر 2025، بعد انقطاع عن زيارتها على مدى سبع سنوات تراوحت خلالها العلاقات السعودية الأمريكية بين الفتور والنشاط دون أن يؤثر ذلك على ثوابت العلاقات الاستراتيجية بينهما. ومثلت زيارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للسعودية فى مايو 2025 مرحلة جديدة من النشاط فى العلاقات الثنائية من خلال التفاهمات السياسية والعسكرية، والاتفاقات الاقتصادية والاستثمارية الضخمة بتمويل سعودى غاية فى السخاء. وتعد زيارة ولى العهد السعودى لواشنطن انتقالة إلى مرحلة أعلى من التعاون بين البلدين فى كل المجالات.
بدأت الزيارة بحرص الرئيس ترامب على أن يكون استقبال ولى العهد مميزًا بترحيب وحفاوة بالغين بحرس شرف والسلام الوطنى للبلدين وأن يكون ترامب أمام باب البيت الأبيض للترحيب بالأمير ولى العهد لدى نزوله من السيارة وأن يصحبه فى جولة فى البيت الأبيض قبل بدء المحادثات الرسمية، وأن يقيم له حفل عشاء رسمى، ويشاركه فى اليوم التالى حضور المنتدى الاقتصادى الأمريكى السعودى، ويلقى ترامب كلمة مطولة عن مجمل العلاقات الأمريكية السعودية.
• • •
وقد أسفرت الزيارة عن عدة نتائج إيجابية تؤدى إلى مزيد من تعزيز العلاقات الأمريكية السعودية، وتوثيق الروابط بينهما، حيث لوحظ فى السنوات السبع الماضية حدوث مزيد من التقارب بين السعودية وكل من روسيا والصين وتنويع العلاقات معهما بما أثار انتباه واشنطن من أن تخفيف وجودها فى الشرق الأوسط أغرى كل من موسكو وبكين على تقديم عروض اقتصادية وتجارية وعسكرية للسعودية بما يوحى بأنها قد تكون بديلًا فى بعض جوانب العلاقات مع الإدراك بقوة واستمرارية العلاقات الاستراتيجية السعودية الأمريكية.
ومن ثم كان حرص ترامب، سواء خلال زيارته السعودية أو خلال زيارة ولى العهد السعودى لواشنطن، إعادة الشمول والقوة للعلاقات بين البلدين، خاصة على ضوء احتياج الولايات المتحدة الأمريكية لرءوس الأموال السعودية وتنشيط وزيادة المبيعات العسكرية والتكنولوجية الأمريكية لها، نظرًا لتراجع الاقتصاد الأمريكى وعدم كفاية فرض جمارك عالمية على الواردات الأمريكية من الدول الأخرى لتحسين الاقتصاد.
وتم توقيع عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم شملت اتفاقية الدفاع الاستراتيجى، واتفاقية المشاركة الاستراتيجية للذكاء الاصطناعى، والإطار الاستراتيجى للتعاون فى تأمين سلاسل الإمداد باليورانيوم والمعادن النادرة، وإطار العمل الاستراتيجى لتسهيل الإجراءات لتسريع الاستثمارات السعودية، وترتيبات المشاركة المالية والاقتصادية، والاعتراف المتبادل بالمواصفات الفيدرالية الأمريكية لسلامة المركبات، ومذكرة تفاهم فى مجال التعليم والتدريب. كما توصل الطرفان إلى إعلان مشترك لإكمال المناقشات بشأن التعاون فى مجال الطاقة النووية المدنية، وإيضاح أن هذا التعاون سيكون وفقًا للاتفاقية الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية، وهو ما يدل على أنه، إذا كان ثمة اتفاق من حيث المبدأ على التعاون فى مجال الطاقة النووية للأغراض السلمية، إلا أنه ما يزال فى حاجة إلى المزيد من المباحثات بين الجانبين الأمريكى والسعودى للتوصل إلى اتفاق نهائى قابل للتنفيذ فى هذا المجال.
بلغت قيمة الاستثمارات الموقعة بين البلدين نحو 276 مليار دولار أمريكى، مضافة إلى نحو 300 مليار دولار قيمة اتفاقات سابقة هذا العام ليصبح إجمالى القيمة خلال عام 2025 نحو 576 مليار دولار. وأبدى ترامب سعادته بتأكيد ولى العهد بأنه زاد قيمة الاستثمارات السعودية فى الولايات المتحدة الأمريكية من المبلغ الذى سبق وطلبه ترامب قبيل زيارته السعودية، وهو 600 مليار دولار، إلى مبلغ تريليون دولار أمريكى.
• • •
وقد أعلنت وزارة الدفاع السعودية أنه تم توقيع 8 مذكرات نوايا مع كبريات الشركات الأمريكية المتخصصة فى الصناعات العسكرية الدفاعية والتقنيات المتقدمة، تضمنت الاتفاق على مشروعات نوعية فى مجالات الصناعة المتقدمة وتشمل صناعة الطائرات، والأمن السيبرانى، والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وتقنيات الذكاء الاصطناعى بما يسهم فى رفع مستوى الجاهزية العسكرية لأفرع القوات المسلحة السعودية، وتعزيز قدراتها ورفع كفاءتها القتالية. ويعد التوطين لهذه الصناعات محورًا رئيسيًا سواء فى توسيع نطاق التصنيع العسكرى المحلى ونقل التقنيات الدفاعية المتقدمة ومن خلال تبادل الخبرات والمعرفة وتطوير وتأهيل الكفاءات الوطنية بما يتماشى مع مستهدفات رؤية السعودية 2030.
أعلن الرئيس ترامب تصنيف السعودية حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة الأمريكية من خارج حلف شمال الأطلسى (الناتو) وهذا يعد الأعلى درجة على صعيد التعاون العسكرى والأمنى الذى تمنحه واشنطن لدولة خارج الناتو، إذ تمنح السعودية مزايا أساسية ومهمة لا سيما على صعيد تقديم التسهيلات فى التعاون العسكرى والدفاعى، وإمكانية شراء أسلحة أمريكية متقدمة بشروط ميسرة. كما يعطيها الأولوية فى الحصول على المعدات الدفاعية من الجيش الأمريكى، أو للوصول إلى برامج البحث والتطوير الدفاعى، والمشاركة فى مشروعات مشتركة لتطوير التكنولوجيا العسكرية، ويمنحها إمكانية التعاون فى إنتاج الأسلحة والأنظمة الدفاعية، ويسهل عليها المشاركة فى تدريبات ومناورات الجيش الأمريكى، فضلًا عن الدعم اللوجستى والتمويل العسكرى، كما يتيح تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق العمليات العسكرية.
وقد وافق ترامب على حزمة مبيعات عسكرية للسعودية تشمل طائرات عسكرية مقاتلة من طراز F-35، وهى أحدث الطائرات الأمريكية وستصبح السعودية ثانى دولة تحصل عليها فى الشرق الأوسط بعد إسرائيل، وكذلك 300 دبابة حديثة وبعض المعدات والأجهزة العسكرية الأخرى. وقال ترامب إن بيع هذه الطائرات للسعودية لن يغضب إسرائيل، وأنه سيكون خطوة إلى انضمام السعودية إلى الاتفاقات الإبراهيمية. وقال إنه تلقى «ردًا إيجابيًا» بشأن إمكانية تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وجاء رد ولى العهد بأن السعودية لن تطبع علاقاتها مع إسرائيل إلا إذا أتاحت مسارًا لإقامة دولة فلسطينية. كما أوضحت السعودية بعد ذلك بأنه لن يتم التطبيع بينها وإسرائيل إلا إذا التزمت إسرائيل التزامًا لا رجعة فيه بإقامة الدولة الفلسطينية.
• • •
تناولت المباحثات السياسية فى الشرق الأوسط بين ترامب وولى العهد القضايا والأزمات الساخنة وشملت الأوضاع فى غزة وضرورة وأهمية تثبيت وقف إطلاق النار، وتقديم المساعدات الكافية، والعمل على الانتقال للمرحلة الثانية من خطة السلام فى غزة تمهيدًا لإعادة الإعمار. وقال ترامب إن ولى العهد طلب منه التدخل شخصيًا لتسوية الأزمة السودانية سياسيًا، وأنه سيقوم بذلك بعد أن أوضح له ولى العهد الأوضاع فى السودان. كما تسربت أنباء عن أن إيران طلبت من ولى العهد التوسط لدى ترامب لاستئناف المفاوضات بشأن الملف النووى الإيرانى، وهو ما يشير إلى تحسب طهران من أن يتطور الموقف بما قد يؤدى إلى توجيه ضربات عسكرية إلى إيران مرة أخرى. كما تناولت المباحثات الأوضاع فى سوريا وما أسفرت عنه زيارة الرئيس أحمد الشرع لواشنطن والتوتر مع إسرائيل وطوائف المجتمع السورى، والأوضاع فى لبنان ومسألة نزع سلاح حزب الله وعدم التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار واستمرار اعتداءاتها على سوريا ولبنان، وكذلك الأوضاع فى اليمن وأمن الملاحة فى البحر الأحمر وارتباطه بالحرب الإسرائيلية على غزة.
أكد ترامب، فى المؤتمر الصحفى المشترك مع ولى العهد، ردًا على سؤال لأحد الصحفيين، بأنه لا علاقة له بأعمال عائلته فى السعودية منذ توليه الرئاسة الأمريكية الحالية، وأنه وضع أعماله فى صندوق يديره أبناؤه. والحقيقة أن ما قاله ترامب لا ينفى أنه أكبر مستفيد من عائدات أعمال أسرته فى السعودية بعد أن تنتهى مدة رئاسته ويعود لأعماله.
إن محصلة زيارة ترامب للسعودية فى مايو 2025، وزيارة ولى العهد السعودى لواشنطن فى نوفمبر 2025، تدعمان بقوة العلاقات الاستراتيجية الأمريكية السعودية، وتتيح لواشنطن استثمارات سعودية ضخمة تساعد فى إنعاش الاقتصاد الأمريكى مع صفقات الأسلحة الأمريكية، كما يوفر للسعودية مستوى أعلى من الدعم العسكرى والأمنى والتكنولوجى الأمريكى فى ظل أوضاع متوترة وأزمات وصراعات مزمنة فى منطقة الشرق الأوسط.
مساعد وزير الخارجية الأسبق