توفيق صالح الذى كان يعرف كيف «يفلت من مؤامرات» محبيه وأنصار سينماه (2-2) - إبراهيم العريس - بوابة الشروق
الجمعة 12 ديسمبر 2025 8:11 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما تقييمك لمجموعة المنتخب المصري في كأس العالم برفقة بلجيكا وإيران ونيوزيلندا؟

توفيق صالح الذى كان يعرف كيف «يفلت من مؤامرات» محبيه وأنصار سينماه (2-2)

نشر فى : الخميس 11 ديسمبر 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : الخميس 11 ديسمبر 2025 - 7:10 م

كان ذلك فى تونس خلال واحدة من دورات مهرجانها السينمائى الذى لم يكن يضاهيه إلا مهرجان القاهرة ومهرجان دمشق، فى زمن يمكننا أن نسميه العصر الذهبى للمهرجانات السينمائية العربية الحقيقية. وكنا، توفيق صالح والمنتج التونسى أحمد بهاءالدين عطية، وكاتب هذه السطور، جالسين فى «قعدة نميمة» كالعادة، فى صالون الطابق الثانى لفندق إفريقيا فى تونس العاصمة. وكان ذلك الصالون معروفا بهدوئه المطلق وبالتالى كنا ننم ونحن نتحدث آمنين إنصات أحد إلينا.. ولكن فجأة ومن حيث لا ننتبه هجمت علينا سيدة فى نحو الستين من عمرها لا تخلو من بقايا جمال وأناقة لافتة، وانحنت من فورها على توفيق صالح محاولة أن تعانقه وتقبله. فانتفض هو بأنفة غاضبة صارخا بها «ايه يا مدام... حضرتك بتعملى ايه؟». جفلت السيدة وتراجعت خطوتين ولكن دون أن تفارق عيناها وجه المخرج الكبير حتى وإن كانت قد قلبت نظراتها بيننا وبينه وكلها دهشة. لكن المنتج الصديق عطية ابتسم بسرعة ملطفا الجو وقال لتوفيق بكل هدوء: «مالك يا استاذ.. ألم تعرف فلانة ابنة الصديق الكاتب فلان؟ لقد كنتما أنت وهى أعز صديقين فى تونس قبل زمن. هل نسيتها؟». وبالفعل يبدو أن المخرج الصديق تذكر السيدة، لكنه كان لا يزال غاضبا من هجمتها عليه دون إنذار، فواصل احتجاجه قائلا: «أجل بالطبع عرفتها. ولكنها عجزت كتير!». هنا أُسقط فى يد السيدة تماما وتراجعت خطوتين غير عارفة كيف تتصرف حفظا لكرامتها من ناحية، وربما أملا فى أن «ينقذ» الأستاذ نفسه من موقفه غير اللائق. وهنا من جديد سارع عطية لإنقاذ الموقف بمرحه المعهود ليقول توفيق وهو يغمز السيدة: «نحن كلنا عجزنا.. حتى أنا صرت عجوزا مع إنى أصغر منك بربع قرن». ففكر توفيق قليلا ثم قال وهو يقلب نظره بين السيدة وعطية ويتابع: «بس انت لسه حلو شوية يا عزيزى!». فاستدارت السيدة بغضب ويأس حقيقيين هذه المرة، وغادرت بينما ارتبك توفيق صالح وراح ينظر إلى بحيرة مدمدما: «هو أنا غلطت فى شىء يا إبراهيم..؟» فضحكت وقلت له ما معناه إن كل ما فعله غلط فى غلط.
لكنى سرعان ما انتهزت الفرصة لأقول للمخرج الصديق: «على أية حال لقد خلقت أمامنا هنا مشهدا سينمائيا رائعا لن أنساه أبدا، وسأرى متى يمكننا استخدامه يوما». فقال وقد أراحته فكرة أنه تخلص من الموقف: «أنت دايما عاوز تحيك مؤامرات سينمائية تورطنى فيها..؟ ده مش مشهد بتاعى». ونعرف أن توفيق صالح كان يعنى ما يقول تماما. فهو دائما ما كان يتهرب من السينما التى يعرف «أنها ليست سينماه»، ويخيل إليه أن محبيه لا يتوقفون عن محاولة توريطه فى سينما يتخيلونها له. ففى نهاية الأمر، وعبر الأفلام القليلة التى حققها توفيق صالح فى مصر على الأقل، كانت سينماه دائما جادة، بل متجهمة كما كان على أبو شادى يقول: «سينما متجهمة» لا تتوقف عن التفكير بل حتى عن النضال سواء أُخذت من الأدب، أو من القضايا الاجتماعية الكبرى، أو من الحكايات السياسية. ولعل ذلك الواقع هو الذى حدا يوما بالمفكر المصرى حسن حنفى لأن يشاركنا فى المجلس الأعلى للثقافة ندوة سينمائية كرس فيها مداخلته لما أسماه «السينما الفلسفية: توفيق صالح باعتباره نموذجا». ولقد دهش المفكر الكبير حين عارضناه أنا وآخرون خلال الندوة مؤكدين له أن «زقاق السيد البلطى» و«درب المهابيل» و«يوميات نائب فى الأرياف» و«صراع الأبطال» وغيرها ليست سينما فلسفية بأية حال من الأحوال. وحين اقتنع حنفى باعتراضنا فكر لحظة ثم سألنا، «لماذا إذا يقول توفيق صالح إن يوسف شاهين قد سرق منه فكرة فيلم كان يريد تحقيقه وهو «ابن رشد»؟.
طبعا كان حنفى محقا فى سؤاله. لكن توفيق صالح لم يكن محقا فى اتهامه الذى وجهه لشاهين، بل إن الاتهام يدخل فى سياق مواقف عديدة أيدها توفيق صالح آخر حياته، ووزع فيه الاتهامات على أصدقائه السينمائيين بأنهم يعرقلون مشاريعه. ولقد طاولت الاتهامات إلى جانب يوسف شاهين، سمير فريد وعلى أبو شادى… غير أن كاتب هذه السطور يمكنه أن يؤكد، وهو ما كتبته خلال حياة توفيق صالح على أية حال، وحاول هو أن يرد على فى مقال نشرته له بينما كنت أؤكد له أنه غير محق فيه، أن ما من أحد يتآمر عليه. كل ما فى الأمر أنه هو نفسه لم يكن يريد أن يخوض أية تجربة سينمائية بعد صدمة فيلمه عن حياة صدام حسين. ولئن كنت سأؤجل حتى مناسبة أخرى، الحديث عن الحكاية الحقيقية، كما تدخلت فيها أنا شخصيا، لمشروع فيلم "ابن رشد" الذى استقر فى النهاية لدى يوسف شاهين الذى حققه عبر فيلمه الكبير "المصير"، فإن الإنصاف يفرض هنا الإشارة إلى جانب غير خاف من جوانب فكر توفيق صالح للذين كانوا يعرفون ذلك المخرج المثقف الكبير عن قرب.
وهذا الجانب قد يشكل لومًا له هو نفسه فحواه أنه كان من شأنه أن يوسع كثيرًا من أفق سينماه وحياته، لو اهتم هو نفسه بذلك الجانب، فتوفيق صالح كان قارئًا نهمًا للرواية، العالمية والعربية، ولعل كسله وحده حرم المتلقين العرب، وربما غير العرب كذلك، ليس فقط من روايات كان من شأنه أن يكتبها، وكان يمضى وقته فى سهراته يرويها بحذق وإبداع كبيرين، تماما كما حرم نفسه من تحويلها إلى أفلام بحسه السينمائى الكبير وثقافته البصرية الواسعة. وحسبى هنا أن أذكر حالتين تتعلقان بهذا الأمر، أولهما أنه كان هو من حدثنى باكرا جدا عن تلك الظاهرة الأدبية الكبيرة فى مصر التى مثلها خيرى شلبى، الذى تأخر كثيرا قبل أن يطل على عالم الرواية من خلال تحفته «وكالة عطية»، التى رغم أن توفيق جاء لى من القاهرة إلى نيويورك حيث كنا نشارك معا فى مهرجان للسينما العربية، بنسخة من طبعتها الأولى، أصر ونحن نتمشى فى الشارع الخامس على أن يحكيها لى منطلقا من رؤية بصرية إليها بدت لى مذهلة عندما قرأتها بالفعل.
أما الحالة الثانية فتتعلق برواية صديقنا المشترك نجيب محفوظ التى كانت حين التقيت توفيق صالح فى باريس، قد صدرت حديثا. مرة أخرى - هنا - أهدانى هو نفسه نسخة من طبعة هذه الرواية الأولى ثم انصرف يحكيها لى بالتفاصيل لقطة لقطة. ولكنه فى المرتين حين انتهى من حديثه، وشعر بالارتياح من هذا الهم، صاح بى عندما قلت له إن عليه أن يفكر بنقل الروايتين إلى الشاشة الكبيرة طالما أنه كتب السيناريو شفاهة، صاح بى وهو يبتسم بمكر: «إيه... أنت حتخش مؤامرة ضدى مرة تانية وإلا إيه؟».

إبراهيم العريس إبراهيم العريس
التعليقات