تعد سير الصالحات تربية عملية للنفوس، وغَرْس للفضائل، وتدريب على التجمل بالآداب الإنسانية في ميادين الخُلُق والرضا وطاعة الله؛ ذلك لأن التربية بالاقتداء من خير الأساليب التربوية؛ لصقل الطباع، وتهذيب المشاعر، والسير قدما على طريق التقوى والاستقامة.
وفي عصر التابعين برزت قصص عشرات النساء في حياة نبي الأمة، ممن كان لهن أثر عظيم في عصرهن والعصور التي تلته، أفرد لهن المؤلف والمترجم السوري أحمد خليل جمعة، كتاب "نساء في عصر التابعين" الصادر عن دار نشر ابن كثير، ليركز على دورهن وما جرى لهن من أحداث ترتبط بالدعوة الإسلامية وبالرسول.
أم كلثوم بنت أبي بكر
جمعت لهذه التابعية من الفضائل ما لم يجمع لامرأة سواها؛ فيمن عاصرها من نساء التابعين، فصهرها أفضل خلق الله على الإطلاق، محمد رسول الله ، زوج أختها عائشة، وأبوها ثاني اثنين إذ هما في الغار، ومجمع كل فضيلة، الصديق الأول، والخليفة الأول، سيدنا أبو بكر الصديق، الذي قال فيه القائل فأجاد: لا تفضل على العتيق صديقاً.. فهو صديق أحمد المختار.. وإن ارتبت في الأحاديث فاقراً.. ثاني اثنين إذ هما في الغار.
وجدها لأبيها أبو قحافة، صحابي وأبو صحابي، وجدتها لأبيها أم الخير سلمى بنت صخر، صحابية قديمة الإسلام، وأختها عائشة أم المؤمنين، زوجة النبي، الصديقة بنت الصديق الأكبر، أفقه نساء الأمة على الإطلاق.
وأختها الأخرى أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، وإخوتها لأبيها عبد الرحمن، وعبد الله، ومحمد، من فرسان مدرسة النبوة، ومن أبطال المسلمين، ومن الشجعان المذكورين.
أما زوجها فهو سلف النبي، وممن سبق إلى الإسلام، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الأخيار الأجواد سيدنا طلحة بن عبيد الله.
وأما التابعية صاحبة هذه المكارم، ومن نستمتع بسيرتها فهي أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وأمها حبيبة بنت خارجة الأنصارية الخزرجية، تزوجها أبو بكر في الإسلام.
وكان لأم كلثوم هذه شأن، وهي ما تزال حملاً في بطن أمها، حيث إن أبا بكر الصديق أوصى بها أختها عائشة وصية تدل على فراسته وإكرام الله عز وجل له.
استوصى بها خيرا
كان سيدنا أبو بكر الصديق قد وَهَبَ لابنته عائشة أرضاً بالعالية، وكان النبي أعطاه إياها فأصلحها وغرس فيها، ثم جعلها لابنته أم المؤمنين؛ فلما حضرته الوفاة - وكانت زوجته حبيبة حاملاً - فكر في رد المال على ورثته، وكان شديد الحرص على أن يدعم هذه الدنيا بريئاً، وعلى أن يلقى الله عز وجل وقد ألقى عن نفسه كل ما يخشى أن يؤاخذه الله عز وجل به.
عندئذ دعا ابنته عائشة - رضي الله عنها - وقال لها: يا بنية، إن أحب الناس عنى إلي بعدي أنت، وإن أعز الناس علي فقراً بعدي أنت، وإني كنت نحلتك - أعطيتك - أرضي التي تعلمين، وإنك لم تحوزيها، وأنا أحب أن ترديها على فيكون ذلك قسمة بين ولدي على كتاب الله عز وجل؛ فإنَّما هو مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك.
قالت عائشة: هذه أختي أسماء قد عرفتها، فمن الأخرى؟، قال: ذو بطن ابنة خارجة، قد ألقي في روعي أنها جارية؛ فاستوصي بها خيراً، فكانت كما قال، وولدت أم كلثوم بعد موته.
جدير بالذكر أن أبا بكر قد ورته أبوه أبو قحافة، وزوجتاه أسماء بنت عميس، وحبيبة بنت خارجة، وأولاده عبد الرحمن، ومحمد، وعائشة، وأسماء، وأم كلثوم.
أم كلثوم وتربية عائشة
حافظت أم المؤمنين عائشة على وصية أبيها، وحفظتها في أختها أم كلثوم - وكانت بها مستوصية - فلما شبت أم كلثوم عن الطوق، أخذت عائشة ترعاها رعاية الأم الرؤوم، وتحفظها من كل ما يدعو إلى إزعاجها، وراحت تعلمها وتلقنها المعارف، حتى تخرجت من مدرستها الفقهية والحديثية وروت عنها، وأضحت من حافظات حدیث رسول الله ﷺ، ومن النسوة الثقات اللاتي يؤخذ عنهن الحديث.
وقد روى عن أم كلثوم بنت أبي بكر جمع من أهل العلم والمعرفة والفضل، وفي مقدمتهم: سيدنا جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي المشهور، وهو أكبر منها، وهي من التابعيات اللواتي روى عنهن الصحابة.
وروى عنها ابنها: إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وطلحة بن يحيى بن طلحة، والمغيرة بن حكيم الصنعاني، وجبير بن حبيب، وغيرهم، وروى لها الإمام مسلم في الصحيح، والترمذي في السنن.
ومن مروياتها ما أخرجه الإمام مسلم بسنده عن المغيرة بن حكيم الصنعاني، عن أم كلثوم بنت أبي بكر أنها أخبرته عن عائشة قالت: أَعْتَمَ النَّبِيُّ الله ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى؛ فقال: (إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي).
أترغبين عن أمير المؤمنين
كان عمر بن الخطاب صاحب الأمر في الجزيرة العربية، وصاحب الغلبة على ملك الأكاسرة والقياصرة والفراعنة، ومدير الحكم في المدينة المنورة - رجلاً يعيش في بيته عيشة الكفاف، يقنع من الغذاء والكساء يحظ لا يتمناه كثير من الرجال، ويزهد فيه كثير من النساء.
وليس عجباً أن يخطب الخليفة عمر بعض النساء، فيأبين عيشه، لأنه كما وصفته أم أبان بنت عتبة بن ربيعة -وكان قد خطبها فرفضت-: إنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه، كأنه ينظر إلى ربه بعينه.
وهذا ما كان وحدث لأم كلثوم بنت أبي بكر مع أمير المؤمنين عمر، فقد خطب سيدنا عمر أم كلثوم إلى أختها عائشة أم المؤمنين، وأرسل لعائشة في ذلك: فقالت له: الأمر إليك، ثم سألت أختها - أم كلثوم - فأبته، وقالت: لا حاجة لي فيه، فزجرتها عائشة، وقالت: أترغبين عن أمير المؤمنين؟.
قالت: نعم، إنه خشن العيش، شديد على النساء، ولا طاقة لي بذلك، وكرهت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن تجبه عمر بالرفض، فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فأخبرته، ووسطته أن يحتال لعمر برفقه وحسن تدبيره، فقال عمرو: أكفيك.
فأتى عمر، وقال له: يا أمير المؤمنين، بلغني خير أعيذك بالله منه، قال: وما هو؟، قال: خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر!. قال: نعم، أفرغبت بي عنها، أم رغبت بها عني؟. قال: لا واحدة؛ ولكنها حدثة، نشأت تحت كنف أم المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك، وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك؛ فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها، كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك؟.
ولكن عمر العبقري الذكي فهم أن عمرو بن العاص؛ لا يقدم على هذه الوساطة بغير موسط، وأن في الأمر ممانعة على نحو من الأنحاء، فسأله كأنه يستطلع ما وراءه من هذه الممانعة، وقال: فكيف بعائشة وقد كلمتها؟.
قال: يا أمير المؤمنين، أنا لك بها، وأدلك على خير منها، أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، تعلق منها بنسب من رسول الله ﷺ.
إنك موفقة بنت موفق
تزوّج أم كلثوم بنت أبي بكر، سيدنا طلحة بن عبيد الله، فولدت له زكريا، ويوسف، وعائشة بنت طلحة، وعاشت أم كلثوم مع زوجها طلحة عيشة المؤمنة العابدة الراضية، وكانت خير زوجة، وخير أم، وما حمد الناس فضيلة للمرأة بنتاً كانت أو زوجاً أو والدة، إلا وكانت أم كلثوم فيها على أجملها وأسماها، وأحقها بالتمجيد والإكبار.
فقد كانت أم كلثوم، ورثت عن أبيها الكرم، ومن كأبي بكر في الكرم؟، كما نشأت في تربية أختها عائشة وعائشة مشهورة بالجود والكرم، مشهود لها بهذه الفضيلة، ثم إن طلحة - زوج أم كلثوم - قد سماه النبي ﷺ: طلحة الخير، وطلحة الفياض، وطلحة الجود.
وبين هذه الخصال الحميدة عاشت أم كلثوم تشجع زوجها على المضي في الإنفاق في وجوه الخير، وشهد شاهد من أهل طلحة لأم كلثوم بهذه الفضيلة؛ فقد ذكر موسى بن طلحة بن عبد الله، أن أباه طلحة أتاه مال من حضرموت عبيد سبعمئة ألف فبات ليلته يتململ. فقالت له أم كلثوم: مالك يا أبا محمد؟.
قال: تفكرت منذ الليلة، فقلت: ما ظن رجل بربه، يبيت وهذا المال في بيته؟. فقالت: فأين أنت عن بعض أخلائك، فإذا أصبحت فاقسمها. فقال لها - وقد سر برأيها وذهب عنه ما كان يجده -: رحمك الله! إنك موفقة بنت موفق. قال موسى - وهي أم كلثوم بنت أبي بكر -.
فلما أصبح، دعا بجفان، فقسمها بين المهاجرين والأنصار، فبعث إلى علي بن أبي طالب منها بجفنة. فقالت له أم كلثوم: أبا محمد! أما كان لنا في هذا المال من نصيب؟. قال: فأين كنت منذ اليوم؟ فشأنك بما بقي. قالت أم كلثوم: فكانت صرة فيها نحو ألف درهم. ولا شك في أن أم كلثوم قد سارعت هي الأخرى بالإنفاق؛ لتحوز فضيلة الكرم، فبعثت بالدراهم إلى مستحقيها.
وظلت أم كلثوم مع زوجها طلحة إلى أن قتل يوم الجمل سنة 36 هـ، عندئذ أخرجتها عائشة إلى مكة، وورد أن عائشة، حجت بأختها أم كلثوم في عدتها من طلحة.
بعد طلحة
بعد مقتل طلحة - رضي الله عنه -، تزوجت أم كلثوم عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، عم الشاعر المشهور عمر بن أبي ربيعة، فولدت له عثمان، وموسى، وإبراهيم، وأم حميد، وأم عثمان.
وظلت أم كلثوم بنت أبي بكر - رحمها الله - تتابع حياتها في المدينة تحت ظلال فقه أختها عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، ولم تشر المصادر إلى تحديد وفاة أم كلثوم، ولم تذكر كذلك مكان وفاتها، ولكن الدلائل تشير إلى أن وفاتها كانت في المدينة المنورة، ويبدو أن وفاتها كانت بعد سنة 58 هـ، أي بعد وفاة أختها عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -.
أقرأ أيضاً: