تعديات سكنية على الحرم الأثرى للتنقيب على الآثار.. وتعاطى وتجارة مخدرات
أعمدة أثرية ملقاة فى الشوارع وسط غياب أمنى كامل رئيس الآثار: الأهالى يقومون بتربية حيوانات داخل الحرم الأثرى
حالة من السكون تخيم على المكان، هدوء يسبق العاصفة إذا ما أردت أن تسير بين أبنائها لتتفقد أحوالهم، أو تتابع أمورهم، أو حتى تقضى مصالحك بداخلها.
هنا؛ فى منطقة «عرب الحصن» بحى المطرية، أو ما يسمى بـ«تل الحصن الأثرى»، يوجد مجتمع مغلق على من بداخله، غير مسموح لأى شخص غريب بالتواجد فيه وسط أهله وأبنائه.
«الشروق» اخترقت المنطقة التى تمتلئ بتجارة المخدرات عيانا أمام المارة والأهالى، والأدوية المخدرة، وسط غياب أمنى كامل، بعد أن اتفق كاتب السطور على تنظيم زيارة للمنطقة بصحبته أحد العاملين بوزارة الآثار، باعتباره أحد العاملين معه بالحقل الأثرى، حتى لا يعلم أحد من الأهالى حقيقته.
الطريق إلى عرب الحصن، ملىء بالتعديات على المواقع الأثرية بشكل لافت، الرمال والأتربة تحيط بك من كل اتجاه، تعديات ومساكن عشوائية لأهالى المنطقة، جرافات للبحث والتنقيب عن الآثار تحت سمع وبصر الجميع، مطبات، أسفلت محطم، غبار كثيف وأتربة، سيارات نقل محملة بمواد بناء مختلفة تدخل أمامك لبناء عمارات سكنية لأهالى المنطقة، تلك هى المشاهد التى لا تستطيع عيناك إغفالها بمجرد الرغبة فى دخول منطقة عرب الحصن.
الجميع يعمل فى صمت أو بالأحرى يخالف فى صمت، مجتمع يتعايش ذاتيا، تربطه مصالح مشتركة، يرفعون شعار الاتحاد قوة والتفرق ضعف، الوقوف ضد كل من يحاول المساس بحقه فى البناء والتعدى على أراضى الدولة.
على أعتاب المنطقة الأثرية، شباب من الأهالى يقومون ببيع الأدوية المخدرة لذويهم من أبناء المنطقة، حبوب مخدرة، يجذب النظر «السرنجات» الملقاة على الطريق، والعبوات الفارغة لأدوية مخدرة ملقاة على بجوار الأسوار، وليس غريبا أن تصطدم قدميك ببقايا سجائر محشوة بقطع من نبات «البانجو» فى الطرقات.
على حواف المنطقة العتيقة، غرفة من الطوب محاطة بأعمدة خرسانية، أقامتها وزارة الآثار، لتأمين المنطقة على أن يتواجد بداخلها «خفير» أو أحد أفراد الأمن، بحيث لا تخلو المنطقة من التأمين على مدار الساعة، ومع دخول الغرفة ستجدها خالية تماما ولا يوجد بها أحد من أفراد الأمن التابعين للوزارة، حتى شرطة السياحة والآثار كانت خالية تماما من المشهد، كما لو أن الدول أرادت أن توصل رسالة لهؤلاء مضمونها «فلتعملوا فى صمت».
على بعد ما يقرب من كيلو مترا من بوابة الدخول إلى المنطقة الأثرية، تجد الجرافات تحاط بك من كل اتجاه، هدفها الأساسى التنقيب بحثا على آثار، وتجريف الأرض من ثرواتها الطبيعية، ومحو معالمها الأثرية.
مشهد آخر يقابلك مفرداته تشوينات بقايا مواد البناء، والأوناش الحديدية التى تتواجد بكثافة داخل الحرم الأثرى تتلقى حمولات سيارت النقل بمواد البناء لتقوم ببناء المبان السكنية الشاقهة التى يتجاوز عدد أدوارها العشرة طوابق، خاصة أن هناك اقبالا كثيفا على البناء أو حتى الشراء بها، حيث وصل ثمن المتر للوحدة السكنية إلى 2200 جنيه، بحسب أحد سكان المنطقة.
يتوسط المنطقة الأثرية، معبدالرعامسة، الذى يعود إلى عهد ملوك الرعامسة، إحدى بقايا معابد الدولة الحديثة، وهو محاط بأسوار وبوابات حديدية، قام الأهالى بتحطيمها بهدف الاستيلاء على أرض المعبد، لطمس معالمها الأثرية وبناء عليها مساكن خاصة بهم.
فى مساحة لا تتجاوز المترين داخل السور الأثرى، عشة من البوص، يقطن بها أحد أهالى المنطقة، وبالحديث معه، قال: «أعمل كهربائى، ولا أملك السكن فى شقة، وليس لى مأوى إلا هذه العشة، فبعد أن تزوج أخى مع والدتى فى منزلنا، قررت أن أعيش بمفردى وأترك لهم الشقة، ووجدت هذه المساحة خالية، فقررت أن أبنى بها عشة خاصة أنها قريبة من عملى، وأنا من أبناء المنطقة ومن حقى البناء عليها كما يفعل جيراننا».
وأضاف: «الدولة تركت هذا المكان منذ سنوات طويلة وكان أشبه بالخرابة، ونحن الآن نعمره.. فهل هذا حرام؟».
الحاج سيد، أحد أبناء المنطقة، قال لـ«الشروق»: «لا نريد من الداخلية أو من الحى شىء، أو من الدولة كلها، فقط نريد الحياة، يتركونا نعيش حياتنا دون ضغط أو قيد، نعلم أننا مخالفون ونقوم بالبناء المخالف للقانون، ولكن هذه ظروفنا، فلدينا أبناء وأسر نريد أن نزوجهم ونطمئن عليهم، وهذه أرضنا وأرض جدودنا فلماذا لا نستعين بها ونفك كربنا».
ويضيف: «نرفض كل التعديات على الآثار، وبيع المخدرات، ونطالب الدولة والأجهزة المسئولة بتوقفه فى الحال، أما البناء فتتركه لنا حتى نعيش مستورين».
«هذه أرضنا وحقنا، ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ولن نفرط فيها أبدا»، هذا ما يراه أحمد على، 22 سنة، نجار مسلح، مضيفا: «سنتصدى بكل ما لدينا من قوة لأى أحد يتجرأ على مهاجمتنا أو التعدى علينا».
أحد أصحاب المحال التجارية القاطنة بحى المطرية، يقول: «هذه التعديات ليست وليدة اليوم أو الأمس، ولكنها موجودة منذ عشرات السنوات والدولة غائبة، بعد الثورة زادت وتفاقمت وأصبح بيع المخدرات جهرا والحفر علنا أمام أعين الأمن بعد الانفلات الأمنى الذى أعقب الثورة، ولكن لا يمكن التصدى له وإنهاء التعديات عليه، لأن هذه المبانى أصبحت مأوى لتلك الأهالى، وإذا فكرت الدولة محاربتهم سيدافعون عنها حتى الموت».
سعاد أحمد، أحد القاطنين فى منزل مخالف داخل عرب الحصن، تقول: «قمنا ببناء منزلنا هذا عقب اندلاع ثورة 25 يناير، والحمد لله ربنا وفقنا بعد حالة البؤس التى كنا نعيشها فيها داخل غرفة خشبية بجوار محطة المترو».
وأضافت: «فى الوقت الحالى مش عارفين نجيب غرفة واحدة لابننا لزواجه، المكان دلوقتى محدش يقدر يبنى فيه إلا أصحاب النفوذ، واللى معاهم فلوس»، مؤكدة أن هدف الأهالى فى عرب الحصن توفير مسكن فقط، وليس التنقيب عن آثار أو التربح من خلال الاتجار فيها.
مفتش آثار بعرب الحصن، رفض ذكر اسمه، أكد أن هذه التعديات بالمنطقة ليست وليدة اللحظة، وإنما تعود إلى سنوات طويلة منذ عام 1970، لكنها كانت بصورة محدودة حتى اندلاع ثورة 25 يناير، ونتيجة الانفلات الأمنى الذى أعقب الثورة زاد وتغلغل، والدولة حتى الآن صامتة ولم تتخذ أى أجراء لوقف تلك التعديات، معتبرا أن هذه المنطقة أصبحت بهذه الصورة بعد أن أهملتها الدولة.
وأضاف: «هناك تقصير أمنى واضح فى تأمين الآثار بالمطرية وعرب الحصن، وعين شمس، والمسلة، خاصة أن عمليات الحفر الخلسة مازالت مستمرة حتى الآن بحثا عن الآثار، باعتبار أن المنطقة بها ثراء تاريخى وأثرى كبير».
ويشير إلى أن عمليات الحفر خلسة بدأت عندما عثر بعض الأهالى على آثار تحت منازلهم أثناء إحلالها وتجديدها مما أدى إلى وجود اعتقاد سائد لديهم بأن بيوت المنطقة كلها وعلى رأسها عرب الحصن تحوى على آثار، وأشار إلى أن موظفى الوزارة لا يملكون سوى تحرير محاضر بالمخالفات والتعديات ولا أحد يملك إزالتها.
واعتبر أن قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته لسنة 2010، له سبب كبير فى ذلك القصور حيث يكتفى بمعاقبة كل من قام بالبناء أو الحفر فى منطقة أثرية بعقوبة تصل إلى الحبس لمدة شهر واحد فقط، وتغريمه 100 جنية فقط، وبالطبع هذه العقوبة تساعد أكثر على ارتكاب مخالفات بحق الآثار المصرية، مطالبا بتعديل القانون بما يسمح من بسط نفوذ الدولة على حضارتها المصرية.
وبحزن يخيم على وجهه، وهو يشرح تاريخ وثراء المنطقة، قال مفتش الآثار: «عرب الحصن تعد من أهم المناطق الأثرية فى مصر فكانت على مدى التاريخ الفرعونى مركز لعبادة الشمس، واهتم الملوك بالتقرب إلى إله «الشمس» وتشييد المعابد له فى هذه المنطقة، أما فى الدولة الحديثة ازداد الاهتمام بالمنطقة وشيدت العديد من المعابد فى عصر تحتمس الثالث وامنحتب الثالث ورمسيس الثانى ورمسيس الثالث ورمسيس التاسع واستمر هذا الاهتمام فى العصر المتأخر».
من جانبه، يرى الدكتور يوسف خليفة، رئيس قطاع الآثار المصرية، أن كثرة التعديات والتجاوزات التى تحدث داخل منطقة عرب الحصن، ليست وليدة اللحظة وإنما يرجع وجودها إلى سنوات طويلة، لأسباب عدة، من أهمها الكثافة السكانية التى تحيط بالمكان من كل الاتجاهات، ومصانع تكرير البترول التى توجد فى البر الغربى من المنطقة وتمنع التوسع فى المنطقة الأثرية.
وقال خليفة: «للأسف الشديد انتشار الجهل والأمية وتدنى مستويات الفكر والثقافة لدى الأهالى، ساهم بشكل كبير فى الوصول إلى هذه الدرجة، لدرجة أن الأهالى يقومون بتربية الماشية والحيوانات داخل الحرم الأثرى، ويلقون القمامة وسط الطرقات، فالموضوع له أبعاد كثيرة لا يمكن القضاء عليه بسهولة».
وأضاف: «عرب الحصن تمثل كنز يضاف إلى الحضارة المصرية، حيث إنه المكان الوحيد فى القاهرة الذى يحوى على آثار مصرية، ويتميز بوجود العديد من بقايا معابد الدولة الحديثة، التى تعود إلى عهد ملوك الرعامسة».
واعتبر خليفة أن المشكلة الأكبر تكمن فى انتشار عناصر البلطجة والخارجين على القانون، الذين يروجون لبيع المخدرات داخل المنطقة وخارجها، مستخدمين السطو المسلح، قائلا: «الحل الوحيد هو أننا نقوم بعمل مدنية سكنية لنقل المساكن التى أقامها الأهالى داخل المنطقة الأثرية إليها، حتى نستطع أن نعمل وننقب عن أثار أجدادنا المصريين».