تحل هذه الأيام ذكرى ميلاد الكاتب والمفكر الكبير نعوم تشومسكي، الذي وُلِد في 7 ديسمبر 1928، ولم يكن أحد ليتوقع أن يصبح واحدًا من أهم العقول في العصر الحديث، وأن يمتد تأثيره من قاعات اللسانيات إلى ساحات السياسة، ومن نظرية «النحو التوليدي» إلى نقد الإمبراطوريات والحروب.
تشومسكي، الذي يوصف عالميًا بأنه «أب اللسانيات الحديثة»، لم يكن مجرد عالم لغويات؛ بل فيلسوف، ومؤرخ، وناشط سياسي، ومنظر اجتماعي، وصاحب صوت نقدي كبير. وعلى مدار عقود، صار أحد أبرز المثقفين الذين يُعاد إليهم النظر كلما اشتدت عبثية العالم وقسوته.
من فيلادلفيا إلى قمة اللسانيات
نشأ تشومسكي في فيلادلفيا في بيت يهودي تقدمي. والده، ويليام تشومسكي، كان باحثًا في العبرية، ويؤمن بأن التعليم الحقيقي يبدأ حين يصبح الإنسان حرًا في التفكير.
تربى نعوم على هذه القيم منذ الصغر، ليصبح قارئًا نهمًا يتجول بين الأناركية، والاشتراكية التحررية، وأدبيات أورويل وراسل وروزا لوكسمبورغ.
في العاشرة كتب أول مقالاته عن صعود الفاشية في أوروبا، وفي الثانية عشرة انحاز تمامًا للفكر التحرري. هذه البذرة الفكرية صنعت لاحقًا عالم اللسانيات المتمرد، الذي سيشغل العالم بنظرياته وأفكاره.
حين التحق بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، جعل من اللسانيات علمًا مختلفًا، مؤسسًا لنظرية النحو التوليدي، ومطلقًا ما عُرف لاحقًا بـ «تراتبية تشومسكي». امتد أثره إلى علوم الحاسوب، والرياضيات، وعلم النفس، وأصبح مرجعًا يُدرَّس في جميع أنحاء العالم.
من اللسانيات إلى السياسة.. المثقف الذي لا يخاف النقد
بعد نشر كتابه الأول في اللسانيات، لم يكتفِ تشومسكي بالأكاديمية، بل خرج إلى الشارع السياسي كأحد أبرز المعارضين لحرب فيتنام، وكاشفًا صمت الإعلام الأمريكي وانحيازاته.
كتابه «صناعة الإذعان» (Manufacturing Consent)، الذي كتبه مع إدوارد هيرمان، أصبح نموذجًا كلاسيكيًا لفهم الدعاية الحديثة وكيف يُصنع الرأي العام.
انتقاداته للسياسة الخارجية الأمريكية، ولرأسمالية الدولة، وللتحالفات العسكرية، وضعته في موقع المعارض الأكبر في الثقافة الأمريكية. ومع ذلك، ظل دائمًا معتمدًا على وثائق وبيانات وتحليل عقلاني بعيد عن الإثارة.
تشومسكي وإسرائيل.. اليهودي الذي دفع الثمن
رغم أنه يهودي الديانة، ظل تشومسكي من أكثر الأصوات وضوحًا في نقد سياسات الحكومة الإسرائيلية، معتبرًا أن «اختيار التوسع على حساب الأمن سيقود إسرائيل إلى الانهيار الأخلاقي».
مواقفه كلفته كثيرًا، حتى منع من دخول الضفة الغربية عام 2010 لأنه كان سيلقي محاضرة في جامعة فلسطينية. لم تكن مواقفه محاولة للمزايدة، بل تعبيرًا عن رؤية أخلاقية ثابتة تؤمن بحقوق الإنسان ورفض العنصرية أينما كانت.
إرث مختلف
أكثر من 100 كتاب، آلاف المقالات والمقابلات، تأثير علمي وسياسي بحجم قارة كاملة. في قائمة الإحالات الإنسانية لعام 1992، كان تشومسكي الأكثر استشهادًا به بين العلماء الأحياء، والمرتبة الثامنة بين كل المراجع في التاريخ، إلى جوار الكتاب المقدس وماركس. وحتى بعدما تجاوز التسعين، ظل يكتب ويحاضر ويحلل العالم بعقل يقظ وروح لا تهدأ.
لماذا ما زال تشومسكي مهمًا اليوم؟
يظل نعوم تشومسكي بأفكاره الناقدة والمتمردة والإنسانية مهمًا لأسباب عدة، منها: الدفاع عن العقل والعلم، نقد السلطة بلا مواربة، الإيمان بقدرة البشر على تغيير واقعهم، مقاومة الدعاية والتلاعب الإعلامي، والبحث عن عدالة تتجاوز السياسة والعرق والهوية.
ويضاعف الاهتمام المستمر بتشومسكي أن العالم الذي نعيشه صار يعج بالكثير من الضجيج والتضليل، وفي ظل ذلك يبقى صوته واحدًا من الأصوات القليلة التي لا تزال تؤمن بكرامة المعرفة وحرية الإنسان.