«محمد القصبجى ظاهرة موسيقية وحيدة. استطاع بألحانه نقل الغناء من الطرب الخالص إلى الطرب المُعبر. كان فى جميع أطوار حياته مجددًا ومتطورًا. رائدًا من الرواد الذين سيُخلد التاريخ أسماءهم»، بهذه العبارة تقدم الفنانة رتيبة الحفنى للقارئ العربى أستاذها وأحد أفراد أسرتها الموسيقار محمد القصبجى، سيد عازفى العود فى القرن العشرين، فى كتابها الصادر عن دار الشروق بعنوان «القصبجى.. الموسيقى العاشق».
ومحمد القصبجى الذى يحل هذا الأسبوع ذكرى ميلاده الـ 129، هو دعامة من دعامات الموسيقى الموروثة، مارس موسيقانا العربية وعايشها بفكر متفتح وروح أصيلة، فكان له بالغ الأثر فى التفكير والتكوين الفنى لمن خلفوه، وظلت مدرسته حية بعدما أحدث مؤسسها ثورة فى عالم النغم.
وُلد القصبجى فى 15 أبريل 1892، لوالده الشيخ على إبراهيم القصبجى المنشد والمقرئ المعروف فى حى عابدين. تخرج فى مدرسة عثمان باشا، حفظ القرآن وتعلم أصول تجويده، وساعدته النشأة الفنية على إتقان الموسيقى العربية التى اتخذ علمها من منبعها الأول التجويد والموشحات.
♦ «مؤسس تخت كوكب الشرق»
البداية الحقيقية للقصبجى جاءت مع صوت كوكب الشرق أم كلثوم، سعى إليها بعدما سمع صوتها فى بداياتها 1923، وهى تغنى قصائد فى مدح الرسول، ثم تعرف عليها عن قرب من خلال صديق والده، قبل أن يقدم لها أول ألحانه «آل إيه حلف ميكلمنيش»، وقدما سويًا عددا من الأغنيات التى تم تسجيلها على أسطوانات، ولاقت نجاحًا كبيرًا، الأمر الذى جعل أجر القصبجى يرتفع وبدأت شركات الأسطوانات تعامله معاملة كبار الفنانين، كما استطاع القصبجى إقناع أم كلثوم بالغناء بمصاحبة التخت، حتى تخرج من كونها منشدة وتدخل عالم الغناء، وكان القصبجى أول عود ثابت يشارك فى تخت المطربة الصاعدة أم كلثوم.
آخر ما غنت أم كلثوم من ألحان القصبجى الطويلة مونولوج «رق الحبيب» 1944، الذى يعتبر البداية الفعلية لانتقال أم كلثوم من الأغنية القصيرة إلى الطويلى، وحتى الآن لم يعرف سبب إقلاع أم كلثوم عن غناء ألحان القصبجى، رغم اعترافها طوال حياتها بفنه وإمكاناته وأستاذيته فى التلحين. وبينما كانت كوكب الشرق ترفض غناء ألحان القصبجى كانت تشجعه على التلحين للأصوات الأخرى، مشترطة عرض هذه الأغانى عليها قبل تسليمها للمطربين والمطربات، وعندما سُئلت كوكب الشرق عن سبب خفوته رغم عظمة ألحانه، قالت «لا يوجد سبب محدد يفسر ذلك، لكنه مُقدر للغاية بين المتخصصين، لأنه كان عالمًا موسيقيًا بحق وأول من استعمل السولوهات فى التلحين».
♦ «القصبجى بين التلحين والتمثيل»
للقصبجى إنتاج غزير فى مجال السينما فهو من أوائل الملحنين الذين غذوا السينما المصرية بألحانهم، له 91 أغنية سينمائية فى 38 فيلمًا قام بأدائها نخبة من كبار النجوم أمثال: «أم كلثوم، صباح، ليلى مراد، نور الهدى، سعاد محمد، أسمهان، هدى سلطان، وغيرهم، كما له بعض المشاهدات التمثيلية الغنائية فى بعض الأفلام ومنها فيلم «ليلى فى الظلام» حيث قام بدور كفيف غنى فيه مع ليلى مراد ديالوج «يا رب يا عالم بالحال، بالصبر داوى كل حزين».
♦ «بين صوت أم كلثوم وأشعار أحمد رامى»
كون القصبجى والشاعر أحمد رامى ثنائيًا فنيًا جميلًا بعد تعاونهما الأول مع أم كلثوم فى أغنية «خايف يكون حبك لى شفقة»، فخرج بعد ذلك عشرات من أعمالهما كلمة وموسيقى فى طراز جديد، وكان سبب هذا التحول الفنى؛ صوت أم كلثوم وجرأة أحمد رامى فى التحدى بكلماته الجديدة، واستطاع القصبجى بحسب الكتاب «أن ينفض عن صوت أم كلثوم خشونة الريف وبدائياته كما قام بصقله وتهذيبه ليتمكن من تأدية لون ألحانه، وساعده على ذلك فطرتها الذكية اللاقطة».
♦ «أم كلثوم عشق من نوع آخر»
اعتبر القصبجى حياته الخاصة ملكًا له وحده فلم يعرف المحيطون به إن كان متزوجًا أو عازبًا، وكان يقضى أغلب وقته فى منزل أم كلثوم وحفلاتها الغنائية، وكان متداخلًا فى حياتها الخاصة، وكان أقرب صديق لها يلازمها فى كل تحركاتها الفنية والخاصة، حريصا على هذه الصلة غيورا عليها يخشى فقد هذه العلاقة وهذه الثقة، محاولًا إبعاد كل من يحاول التقرب إليها، حتى خرجت الإشاعة «القصبجى يعشق أم كلثوم»، والواقع الذى لا يعرفه الكثيرون أن القصبجى تزوج أربع مرات وفى كل مرة كان يطلق زوجته لعدم إنجابها ولدًا يحمل اسمه، وفى المرة الأخيرة أقنعه الطبيب أن عدم الإنجاب لا يرجع إلى عقم الزوجة، فاستسلم لزواجه الرابع من السيدة توحيدة حسين عيسى التى رافقته حتى اليوم الأخير بعدما رافقته وساندته فى أصعب الأوقات.
♦ «سنوات الشقاء»
كانت السنوات الأخيرة فى حياة القصبجى سنوات شقاء بسبب إبعاده عن التلحين، رغم شعوره بقدرته على الإنتاج الفنى، كان إلى آخر يوم فى حياته يشعر بأن لديه أفكارًا جديدة وأن باستطاعته الخروج بألحان مبتكرة، إلا أن عدم الإنتاج الفنى سبب له فراغًا كبيرًا عاش فيه إلى آخر يوم فى حياته، خاصة أنه كان يرى زملاءه يعملون وينتجون وهو الموضوع على الرف، فأظلمت الدنيا فى عينيه وبدأت الأمراض تتسرب إلى جسده فاستسلم إلى أيامه الأخيرة ورحل عن عالمنا يوم الجمعة 25 مارس 1966 عن عمر 74 عامًا.