«نهاية أخرى».. تجربة سينمائية محيرة تزيل الخط الفاصل بين الحياة والموت - بوابة الشروق
السبت 27 يوليه 2024 8:56 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«نهاية أخرى».. تجربة سينمائية محيرة تزيل الخط الفاصل بين الحياة والموت

برلين- خالد محمود:
نشر في: السبت 24 فبراير 2024 - 10:23 م | آخر تحديث: الأحد 25 فبراير 2024 - 1:32 م

*الفيلم يتساءل ماذا تفعل لو تمكنت من إطالة حياة أحبائك باستدعاء ذكرياتهم فى أجساد أخرى
* السيناريو يحاول معالجة أفكار تتعلق بالمأزق الأخلاقى للتكنولوجيا برؤى مستحيلة بالواقع
محاولة يائسة لإعادة تخليق المشاعر وتتركنا نتساءل عن إمكانية تقبل ذلك التصور
ماذا ستفعل لو تمكنت من إطالة حياة أحبائك من خلال ذكرياتهم؟ وما المدى الذى يمكن أن يذهب إليه شخص لرؤية عزيز عليه متوفى مرة أخرى فى عالم يستطيع فيه الأشخاص الحزانى إعادة أحبائهم الموتى لفترة وجيزة فى أجساد مختلفة؟!

السؤال يدعو للتأمل والصدمة والإجابة تضعنا فى موقف أكثر دهشة كما طرحها المخرج الإيطالى بييرو ميسينا بفيلمه «نهاية أخرى» الذى عرض بالمسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائى الـ٧٤، ويتناول فى سياقه نظرة مختلفة عن الحب وخسارة من نحب والمآزق الأخلاقية للتكنولوجيا المتقدمة عندما تقتحم إعادة تخليق للمشاعر والتحليق بها. فى دراما الخيال العلمى البائسة، يجسد جايل جارسيا بيرنال دور «سال»، الرجل الذى فوجئ بموت صديقته وحب حياته «زوى»، يغمره الحزن بعد فشله فى التغلب على خسارته، ومنذ أن فقدها يعيش على الذكريات فقط والتى تبدو مثل شظايا مرآة محطمة لا يمكن إعادة تجميعها مرة أخرى.

تراقب إيبى «بيرينيس بيجو» شقيقة سال شقيقها بقلق متزايد حيث تلاحظ دوامة الحزن التى تحيط به، وهنا تقترح عليه تجربة «نهاية أخرى»، وهى تقنية جديدة تعد بتخفيف آلام الانفصال عن طريق إعادة وعى الشخص المتوفى إلى الحياة لفترة وجيزة. بهذه الطريقة، سيجد سال زوى، التى عادت روحها وعقلها وذكرياتها إلى الحياة مرة أخرى ولكن فى جسد امرأة أخرى..

إنه جسد لا يعرفه ولكنه قادر بشكل مثير وغامض على التعامل مع حبيبته من جديد. ويوافق سال بعد تردد على أمل استعادة اللحظات المشتركة بينهما والتغلب على معاناته من خلال تجربة التكنولوجيا الجديدة مع شخصية امرأة شابة تدعى آفا تجسدها «رينات رينسف». فى الواقع، تجربة «نهاية أخرى» تمنح سال الوقت لمشاركة المزيد من الحياة مع زوى، ليؤكده حبه الكبير مرة أخرى، وليستطيع فى النهاية، أن يودعها كما ينبغى. لكن كانت هذه فرحة هشة وعابرة وماكرة، فعندما يصل سال إلى نهاية البرنامج، يذوب حبه فى الخسارة النهائية لزوجته.

لسوء الحظ، هذه التكنولوجيا الجديدة المعجزة لها حدود. أولا، الجسد الجديد ينتمى بالفعل إلى إنسان آخر، لذلك فى حين أن ذاكرة وشخصية «الغائب» ستكون هى نفسها تماما، إلا أنها لن تشبه بالضرورة الشخص الذى كانت عليه من مشاعر وأحاسيس، ثانيا يكون لدى الشخصية الأخرى وعيها الخاص الذى يبدو معلقا خلال الفترة التى يحتل فيها ذكريات الشخص الغائب، لكن التعرض لفترة طويلة يمكن أن يؤدى إلى امتزاج مجموعتى الذكريات معا، وهو اقتراح خطير يمكن أن يلحق الضرر بالشخصية الجديدة بشكل لا يمكن إصلاحه؛ وبالتالى، هناك حد صارم لعدد المرات التى يمكن لكل جسم أن يخضع فيها لهذا الإجراء نظرا لأنه لن يكون مدركا تماما لعواقبها. فى مرحلة أخرى عندما تتلاشى مشاعر الخوف الأولية لدى سال، فإنه يتمسك بحبه الضائع والمستقبل الذى لم تتح لهم الفرصة لاحتوائه مع حبيبته. فى الصورة يتمتع الممثلان الرئيسيان برنال ورينسف بكيمياء رائعة فى الأداء، مما يجعل تفاعلاتهما مثيرة للغاية، لأننا نعلم أن الزمن الذى يقضيه معا محدود. ولكن مع مرور الوقت، يجد سال نفسه غير راغب بشكل متزايد فى توديع زوى للمرة الثانية، ويشرع فى طريق محفوف بالمخاطر وعواقب بعيدة المدى.

سيناريو «نهاية أخرى» وفريق كتابته الذى يضم جياكومو بيندوتى وفالنتينا جادى وسيباستيانو ميلونى، يسير بشكل رائع فى استكشافه للحزن، ورغبتنا البشرية الفطرية فى خداع الموت.

رحلة سال هى رحلة شخصية للغاية، وكل تصرفاته مدفوعة بالفراغ المعوق الذى خلفه غياب زوى، ولا يخجل المخرج ميسينا من تصوير الواقع الفوضوى للحزن والوحدة الخانقة والشاملة.

وعلى نحو مماثل، فإن الأسئلة الأخلاقية المعقدة التى تطرحها تكنولوجيا نقل الذاكرة مثيرة للاهتمام، وتدفع المرء إلى التأمل فى حدود العلم والمعنى الحقيقى للتواصل الإنسانى، حتى لو كان ذلك على حساب طمس خطوط الواقع.

استكشاف الفيلم لهذه المواضيع يبدو محيرا، ورغم تطور الحبكة الذى يصل فى اللحظات الأخيرة إلى ذروة الهدف يبدو غير قابل للتصديق (إن لم يكن مستحيلا تماما) نظرا لواقع الفيلم المتخيل.

هناك أفكار كبيرة حول التكلفة البشرية للتقدم والتوازن الدقيق بين الاعتزاز بالماضى ومواجهة الحقائق الحتمية للحياة والموت، لكن تنفيذ دراما الفيلم لا ترقى إلى إحداث تأثير دائم، إنه يطمح إلى نسج سرد معقد يستكشف حدود الاتصال البشرى وإمكانية إطالة الحياة من خلال الوسائل التكنولوجية. ومع ذلك، على الرغم من فرضيته الطموحة، إلا أن الفيلم عن تجربة سينمائية محيرة وغير مجزية فى نهاية المطاف فى عالم تطمس فيه التكنولوجيا الخطوط الفاصلة بين الحياة والموت.

شاهدنا أكثر من لحظة مؤثرة أولها عندما يواجه سال مزيجا مؤلما من الحزن والأمل حينما يشاهد رجالا يرتدون معاطف بيضاء، ويلفون رجلا عجوزا بقماش أبيض، وينقلونه بعيدا إلى ناطحة سحاب يمنح فيها الموتى حياة جديدة عن طريق نقل وعيهم إلى أحياء متوافقين، مع وعود بتخفيف آلامهم.. بطلنا المتأثر بفقدان حبيبته زوى، يجد نفسه عند مفترق طرق عندما تعرض عليه أخته، فرصة لإعادة الاتصال بها بزرع ذكرياتها فى جسد امرأة أخرى.

ومن أجل تأثير الحبكة تقوم الشركة المنفذة بإزالة أى أشياء مألوفة من شقة سال وزوى لمساعدة المرأة الجديدة على التكيف فى ذوبان الذاكرة. من خلال هذه الرحلة الدرامية البائسة، يواجه سال الحقيقة المؤلمة وهى أن التشبث بالماضى يمكن أن يؤدى إلى المزيد من الصدمات بالتأملات الفلسفية التى غالبا ما تبدو منفصلة عن الجوهر العاطفى للقصة التى لا تلتزم أبدا باستكشاف الآثار النفسية والأخلاقية لفرضيتها. يحاول المخرج معالجة موضوعات عظيمة حول ما يعنيه أن تكون إنسانا يعيد مجريات حياته فى عصر التقدم التكنولوجى، لكن الحوار غالبا ما يتركنا نتساءل عن إمكانية تقبل ذلك التصور. الرسالة الأساسية ــ أن تجاوز الخسارة هو جزء ضرورى من التجربة الإنسانية ومع ذلك فإن «نهاية أخرى» يفشل فى تقديم المكافأة العاطفية أو الحل الذى تحتاجه القصة بشدة.

ومما يزيد من تفاقم هذه العيوب السردية فشل الفيلم فى معالجة الأسئلة الأساسية حول بناء عالمه، وهى مما تتكون هويتنا؟ كيف تساهم الذاكرة فى هوية الفرد؟ ما هو الدور الذى تلعبه الذاكرة والهوية عندما نتعامل مع فقدان أحد أفراد أسرته؟ كما أن الافتقار إلى الوضوح فيما يتعلق بالآثار الاجتماعية والشخصية لتكنولوجيا نقل الذاكرة يشير إلى فرصة ضائعة للتعامل مع التعقيدات الأخلاقية الكامنة فى مثل هذا العالم.

على الرغم من إخفاقات الفيلم السردية والموضوعية، إلا أنه ملفت للنظر بصريا. يصمم المصور السينمائى فابريزيو لا بالومبارا عالما كئيبا ولكنه مدهش بصريا، مع صور منمقة ترفع أحيانا مستوى العالم الذى يوجد فيه الفيلم بألوانه الزرقاء والسوداء والرمادية، مما يخلق جوا محبطا للغاية وبارد المشاعر يجعل المواقع الداخلية والخارجية بلا حياة ومجهولة إلى حد ما.

كما أن أداء بطلى الفيلم جايل جارسيا بيرنال، رينات رينسيف معا هو الشىء الأفضل فى هذه القصة من خلال التعبير بشكل أصيل عن الحزن العميق واليأس لشخصيتهما. لكن السيناريو لا يتيح لأى منهما مساحة كافية لتطوير اضطرابهما الداخلى أو صراعهما الأخلاقى بشكل كامل.

من الممكن أن يتردد صدى إمكانات تجربة «نهاية أخرى» بعمق فى عصر يتلاقى فيه الرقمى والبيولوجى، مما يشكل تحديا لتصوراتنا عن الهوية وقدسية الذاكرة. بشكل عام، حكاية ميسينا هى رحلة عاطفية للغاية، وإن كانت تعتمد على مجموعة واسعة من المجازات القديمة والجديدة فى الخيال العلمى الأدبى والسينمائى.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك