رسم حسن سليمان ( 1928 ــ 2008 ) لوحته الرائعة «العمل فى الحقل» عام 1962.. وهى من أجمل ما أنتج فى حياته الفنية الثرية وأصبحت من أيقونات الفن المصرى المعاصر.
اللوحة تمثل ثورين يجرّان نورجًا.. وهى الوسيلة التى كانت تستخدم لدرس القمح.. أى عملية فصل الحبوب عن السنابل.. يوجد شخص يجلس على النورج وآخر فى العمق يقف بأداة يجرف بها القمح الذى تم درسه ويضعه على هيئة كومة هرمية فى المنتصف.. أكوام القمح تكون تلالا هرمية تحصر فى المنتصف شكلا بيضاويا يمثل القمح الذى يتم درسه، وهو يمثل مجال الحركة للنورج الذى يتبع هذا المسار فى حركة مستمرة.. عود على بدء.
المنظور فى هذه اللوحة علوى وكأنما الرائى يطل على المشهد من أعلى.. ويوجد خط يقسم اللوحة عرضيا فى خمس اللوحة العلوى.. يوحى هذا الخط بالأفق ولكنه فى غير مكانه الصحيح فطبقا للرؤية العلوية يجب أن يكون خط الأفق مرتفعا عن هذا الموضع.. المساحة المستطيلة التى يحدها هذا الخط توحى بالسماء ووضع الفنان ثقبا اسود يوحى بالشمس وما هى بشمس.. فظلال الشخوص تؤكد أن الشمس عالية فى كبد السماء ولا يمكن أن تكون مائلة عند خط الأفق.
لا توجد خطوط فى اللوحة تؤدى إلى نقطة تلاش فخطوط أكوام القمح تدور وترتفع وتنخفض موحية بحركة دائرية تلتف حول كومة القمح القابعة فى منتصف اللوحة... وقد خلق الفنان فى هذه اللوحة فراغا ذاتيا قائم بذاته منفتحا خلف إطار اللوحة.
علاقة الأجسام بالفراغ تخلقها كثافة كتلتى الثورين والنورج بالدرجة الأولى مقابل فضاء الأرض الأقل كثافة.. ويتعادل مع هذه الكتلة الضخمة للنورج الشخص المغروز فى تبن القمح ويكونان معا مثلثا يحصر فى منتصفه المركز البصرى للوحة.. كما خلق الفنان انحرافا فى علاقة كتلتى الثورين ببعضهما بالمبالغة فى طول الثور الأيسر لتأكيد حالة الحركة الدائرية حول منتصف اللوحة.
كعادة حسن سليمان المفتون بالكتلة والحجم والثقل فقد حرق ألوان ظلاله لتصل إلى الأسود المصمت ولتتضاد بشدة مع لون القمح الناصع كما خلق عمقا لونيا عن طريق التدرج من سخونة وكثافة اللون البنى المحروق فى الثورين والنورج مرورا بالأصفر فى مقدمة اللوحة وانتهاء بالأزرق الرمادى فى مؤخرة اللوحة.
هذا التأكيد على الكتلة والحجم والثقل جعل النورج والثورين يتجمدان فى مكانهما بفعل الجاذبية وكأنما يكافحان للحركة ضد قوة منيعة أو توقفا لالتقاط الأنفاس.. ولكن فى المقابل فإن جميع خطوط أكوام القمح تلف وتدور بلا توقف لتخلق حالة من الحركة المستمرة.. ولتصبح الحركة هنا معكوسة مثل الطفل الذى يمتطى الحصان على الساقية الدوارة فى الملاهى وتبدو له المرئيات وكأنها تدور حوله وهو ثابت فى مكانه.. إضافة إلى هذا يبدو الشخص ذو المذراة مائلا قليلا إلى اليسار متشبثا بمذراته وكأنما المسكين يحاول ألا ينجرف مع الحركة الدائرية.
مثل كل فن عظيم يخرج موضوع اللوحة خارج نطاقه المباشر ليصبح أعم وأوسع وأشمل.. إننا هنا لسنا بصدد أشخاص يؤدون عملا فى الحقل وكفى، وإنما نواجه الإنسان وهو فى رحلة كفاحة فى الحياة.. مربوطا بالأرض التى جاء منها وإليها يعود.. تحرقه أشعة الشمس التى بهرته وحيره سرها فعبدها محاولا استرضاءها.. يدور ويلف يوما بعد يوم وعاما بعد عام فى حركة أبدية عبر تاريخه.. يبنى أهرامات هنا وهناك يعتقد أنه يتحدى بها الزمن وأنها سوف تعطيه الخلود.. وفوقه ترتفع السماء الواسعة مفتوحة بدون حدود.. هى الأمل وهى المصير.. ولكن يخرق امتدادها ذلك الثقب الأسود الذى يرده على عقبيه.. إنه الحاضر أبدا فى كل شهقة وكل زفرة.. إنه المجهول.