قراءة في كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: السادات يقبل قرار وقف إطلاق النار دون إبلاغ سوريا-(9) - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 7:02 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءة في كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: السادات يقبل قرار وقف إطلاق النار دون إبلاغ سوريا-(9)

غاب التنسيق بين السادات والأسد بعد اندلاع القتال
غاب التنسيق بين السادات والأسد بعد اندلاع القتال
عرض ــ خالد أبو بكر
نشر في: الخميس 30 أكتوبر 2014 - 10:54 ص | آخر تحديث: الخميس 30 أكتوبر 2014 - 11:55 ص

السادات يقبل قرار وقف إطلاق النار دون إبلاغ سوريا

• هيكل للسادات: هل يعرف السوريون بالموعد المقرر لوقف إطلاق النار؟ والرئيس: «الروس يقولولهم»

• وهيكل يرد: لكن السوريين عندما فتحوا النار يوم 6 أكتوبر نسقوا معنا ولم ينسقوا مع السوفييت

• السادات فصل بين وقف إطلاق النار والعودة إلى خطوط 1967 عندما كان كيسنجر يتفاوض على وقف القتال فى موسكو

• عزيز صدقى يقترح السفر لموسكو عندما كان كيسنجر هناك.. والسادات يرد: لا لا لا لا أريد وساطة بينى وبريجينيف

• كيسنجر لجولدا مائير: جيش الدفاع يستطيع مواصلة عملياته بعد وقف إطلاق النار

• كيسنجر بعد زيارته لتل أبيب: شعرت بانكسار إسرائيلى يصعب إخفاؤه فهالة الجيش الذى لا يقهر جرى تدميرها

بداية من هذه الحلقة من القراءة التى تقدمها «الشروق» لكتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير، محمد حسنين هيكل، سيرتفع منسوب تعرضنا لما دار على جبهات «السياسة» فى حرب أكتوبر 1973، مقارنة بجبهات «السلاح»، ذلك أن الحركة الرئيسية على مسرح الحرب بدأت بالفعل تنتقل من المسرح العسكرى إلى المسرح السياسى، مع اليوم السادس عشر من بدء القتال (21 أكتوبر)، وهو ما سيساهم بوضوح فى الكشف عن طبيعة أداء القيادة السياسية المصرية لهذه اللحظة الفاصلة فى تاريخ مصر الحديث. يواصل «الأستاذ» ــ فى كتابه الصادر عن دار «الشروق» الحديث عما دار ليلة 20 أكتوبر، فيقول إن الرئيس أنور السادات غادر مقر القيادة فى الساعة الثانية وعشر دقائق، ومن المؤكد أنه عندما وصل إلى قصر الطاهرة كانت خطوته ـــ أو خطاه ـــ التالية تتكشف فى فكره وتتحدد.

واتصل فى الساعة الثالثة والنصف عند الفجر بمحمد حسنين هيكل، وأخبره بأنه استدعى السفير السوفييتى، وأبلغه بأنه على استعداد لقبول وقف إطلاق النار فى أى وقت ابتداء من الآن، طبقا للشروط التى شرحها له من قبل، وطلب منه إبلاغ هذا القبول إلى الرفيق ليونيد بريجنيف (الزعيم السوفييتى) فى موسكو.

وسأله هيكل عن السبب الذى دعاه إلى ذلك بهذه السرعة، وكان رد السادات «الحقيقة أن أحمد إسماعيل أخذنى إلى مكتبه قبل اجتماع القيادة وعرض أمامى الموقف كله، وقال لى إن أحوالنا فى الجبهة حتى الآن جيدة، ولكن الواجب يحتم عليه أن يصارحنى بالحقيقة، وأن يقول لى إننى إذا وجدت وسيلة إلى وقف وقف إطلاق للنار مشرف، فمن المستحسن أن أقبلها حتى لا يتعرض الجيش والبلد إلى أخطار محققة».

وفى الساعة السابعة صباحا كان هيكل يدخل قصر الطاهرة، وعرف هناك أن الرئيس ظل ساهرا حتى الصباح وأرسل رسالة منه إلى الرئيس السورى حافظ الأسد (نصها موجود فى الكتاب)، أبرز ما جاء فيها قوله: «لقد حاربنا إسرائيل إلى اليوم الخامس عشر، وفى الأربعة أيام الأولى كانت إسرائيل وحدها، فكشفنا موقفها فى الجبهة المصرية والسورية وسقط لهم باعترافهم 800 دبابة على الجبهتين، وأكثر من مائتى طائرة.

أما فى العشرة أيام الأخيرة فإننى على الجبهة المصرية أحارب أمريكا بأحدث ما لديها من أسلحة. إننى ببساطة لا أستطيع أن أحارب أمريكا، أو أن أتحمل المسئولية التاريخية لتدمير قواتنا المسلحة مرة أخرى. لذلك فإننى أخطرت الاتحاد السوفييتى بأننى أقبل وقف إطلاق النار على الخطوط الحالية».

وكانت خاتمة ما حدث فى تلك الليلة الحافلة، أن القناة السرية نشطت للعمل فى هذه الساعة. فقد بعث السادات بتوقيع حافظ إسماعيل برسالة إلى كيسنجر الموجود فى موسكو (نصها موجود فى الكتاب)، من ضمن ما جاء فيها أن «الحكومة المصرية توضح الموقف التالى فيما يتعلق بالنزاع الراهن: أ ــ وقف للقتال على الخطوط الحالية. ب ــ عقد مؤتمر سلام بهدف الوصول إلى تسوية أساسية. ج ــ ضمان من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى لوقف القتال وانسحاب القوات الإسرائيلية».

غلاف كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل

كيسنجر فى موسكو

وعن زيارة كيسنجر إلى موسكو قال الأستاذ: وصل كيسنجر إلى موسكو نحو الساعة العاشرة بتوقيت العاصمة السوفييتية (يوم 20 أكتوبر)، ولم يقبل بريجنيف أن ينتظره حتى صباح الأحد كما كان يطلب، وكل ما كان مستعد له هو أن يترك كيسنجر يستريح حتى مساء اليوم ثم يلتقيان فى الكرملين، ويقول الكاتب الكبير بشأن هذا اللقاء: عندما وصل كيسنجر إلى اجتماعه مع بريجنيف فى المساء، أدرك أن أمامه ليلة طويلة. فقد أبلغ أن هناك جسلة محادثات يعقبها عشاء فى الجناح الخاص ببريجنيف فى الساعة الحادية عشرة مساء.

وتحدث بريجنيف عن الحقوق المشروعة للعرب، وعن جهودهم للتوصل إلى تسوية، خصوصا منذ سنة 1970، وأشار إلى الأضرار التى يمكن أن تلحق بالمصالح الأمريكية خصوصا بعد أن استعمل العرب سلاح البترول، ثم زاد على ذلك بأن الأزمة أصبحت تهدد بخطر صدام بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة. وخلص من ذلك إلى أهمية ربط قرار سريع بوقف إطلاق النار بضرورة انسحاب إسرائيل إلى خطوط 4 يونيو، طبقا للقرار 242.

وكان رفض كيسنجر لهذا التصور السوفييتى قاطعا، فقال صراحة إنه لا يمكن ربط وقف إطلاق النار بالقرار 242، وإنما الممكن هو ربطه بمفاوضات مباشرة بين الأطراف على أساس 242، وأن هذه هى الإشارة الوحيدة التى يمكن تقبلها إسرائيل بالنسبة لقرار 242. وطالت المناقشات وامتدت إلى ساعات الصباح الأولى. وتقرر أن يعود الاثنان إلى الاجتماع فى الكرملين فى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالى.

يؤكد «الأستاذ هيكل» أن السادات بدأ يومه (21 أكتوبر) فى حالة من العصبية الشديدة، فقد أحس أن الأمور على الجبهة مهددة بالتدهور، خصوصا أن القوات المقاتلة فى ميادين القتال بدأ يساورها شعور بأن قيادتها فى القاهرة غير ممسكة تماما بزمام الموقف، وكانت القرارات العسكرية تصل إلى الجبهة مترددة فى بعض الأحيان ومتضاربة، وأحس السادات بشكل من الأشكال أن المسئولية انتقلت إليه بالكامل، وأن القيادة العسكرية نقلت إليه أعباء الصورة العامة طالبة منه أن يتصرف، وليس أمامه غير أن يتصرف.

وقرر دعوة السفير السوفييتى فلاديمير فينوجرادوف إلى لقائه وأبلغه أنه «رغبة فى تسهيل عملية التفاوض بين بريجنيف وكيسنجر فى موسكو، فإنه قرر أن يفصل بين وقف إطلاق النار وبين مطلب العودة إلى خطوط 1967». وخرج فينوجرادوف ليخطر موسكو بهذا التطور المهم فى مطالب السادات.

ونوه الكاتب الكبير إلى أن السادات تلقى رسالة من الرئيس الاسد (منشور نصها فى الكتاب) تؤكد أن الأوضاع على الجبهة جيدة وبـ«إمكان القوات المصرية تدمير العدو غرب القناة»، وقرأ السادات الرسالة ولم يكن سعيدا بها. فبدا له على حد تعبيره أن «حافظ يريد أن يعطينا درسا فى الصمود».

وعندما بدأ الاجتماع الثانى بين كيسنجر وبريجنيف فوجئ كيسنجر بأن الزعيم السوفييتى قد أسقط إصراره على وجود صلة بين قرار وقف إطلاق النار وبين مطالبة إسرائيل بالانسحاب إلى خطوط ما قبل يونيو 1967. (وكان هذا التغيير المفاجئ فى الموقف السوفييتى نتيجة لبرقية من السفير فينوجرادوف بعد لقائه مع السادات فى القاهرة، ولكن كيسنجر فوجئ لأنه لم يكن يعرف بهذا التطور).

وأمكن بعد ذلك خلال جلسة الصباح التوصل إلى صيغة ما عرف فيما بعد بالقرار رقم 338. وتقرر إرسال هذا النص إلى القاهرة وإلى تل أبيب لكى يطلع عليه الطرفان قبل إعلانه. وهكذا تأجلت الجلسة إلى ما بعد الظهر فى انتظار معرفة رأى الأطراف المحليين فيما توصلت إليه القوتان الأعظم.

ويشدد الكاتب الكبير على أن أخطر «ما كان فى مشروع القرار 338 أنه يدعو كل الأطراف المشتركة فى القتال الحالى إلى التوقف عن إطلاق النار، وإيقاف أية نشاطات عسكرية على الفور فى مدة لا تتجاوز 12 ساعة من لحظة الموافقة عليه. كما أنه يتعين على جميع القوات من الجانبين أن تثبت فى المواقع التى هى فيها الآن.

وكان نص القرار يوحى بالفصل بين مواقف الدول العربية كأطراف متعددة، ولا يشير إليها كطرف واحد فى مقابل الطرف الإسرائيلى. ومعنى ذلك أن قبول أى طرف عربى به لا يلزم بقية الأطراف. وبالتالى فإن أيا منهم يستطيع أن يتصرف منفردا».

كيسنجر يتحدث إلى الزعيم السوفيتي بريجينيف

21 أكتوبر فى القاهرة

كان الجو فى قصر الطاهرة مشدودا على الآخر، بينما الظلام ينزل على العاصمة التى لم تكن قد استوعبت بعد ما يدور فى كواليس قمتها. وفى الساعة الثامنة وعشر دقائق وصل هيكل إلى القصر، وأبلغه الرئيس على الفور بأنه تلقى مشروع قرار بوقف إطلاق النار تم التوصل إليه فى موسكو وأن مجلس الأمن سوف يصوت عليه هذه الليلة (بتوقيت نيويورك أى غدا بتوقيت القاهرة). وسأل هيكل عن نص مشروع القرار؟، ورد السادات بأنه «اطلع على هذا النص ووافق عليه، وأن حافظ إسماعيل قادم إلى هنا ومعه النص الرسمى»، وجاء بعدها إسماعيل وكان هيكل يعرف حجم التوترات المضغوطة فى قصر الطاهرة تلك الليلة. ولكنه لم يكن يعتقد أنها وصلت إلى هذه الحالة من الاستعداد للانفجار. وفتح إسماعيل حقيبة جلدية يحملها معه، فأخرج منها ملفا أبرز منه ورقة تحوى نص مشروع القرار. ولكن هيكل سأل، وهو لم يقرأ النص بعد: «هل وافقت سوريا عليه؟» ورد السادات بسرعة قائلا: «لا أعرف.. أظن أنهم سوف يوافقون». ومع أن الإلحاح لم يكن مطلوبا فإن الموقف كان يفرض على الجميع أن يتكلموا حتى وإن أحسوا أنهم تجاوزوا. وهكذا عاد هيكل يسأل قائلا: «ولكن هل يعرف السوريون بالموعد المقرر لوقف إطلاق النار؟» ورد السادات وبدت الحدة تظهر فى نبرات صوته «يقول لهم الروس». وقال هيكل للرئيس: «عفوا للإلحاح، ولكن السوريين عندما فتحوا النار يوم 6 أكتوبر نسقوا معنا ولم ينسقوا مع السوفييت، فإذا كان هناك وقف لإطلاق النار تقرر له توقيت محدد، فلاد أن يعرف السوريون منا.. منك، وليس من السوفييت». وبدا الضيق على السادات وتمتم، قائلا: «إن هذه مسألة شكلية، وهى ليست بيت القصيد الآن.. ويمكن أن نتصل بحافظ» (يقصد الرئيس «حافظ الأسد»).

ولاحظ «هيكل» أيضا أن القرار يشير إلى بدء محادثات مباشرة بين الأطراف فور سريان وقف إطلاق النار، وأبدى دهشته من ورود هذا النص، وسأل الرئيس إذا كان قد وافق على هذا الكلام؟ وقال السادات بحزم: «أيوه». وقال هيكل إن «ربط وقف إطلاق النار بمفاوضات مباشرة مسألة لم تحدث من قبل» ثم أضاف: «نحن لم نكن نقبل بذلك قبل الحرب، فكيف نقبل به الآن؟». كان هيكل يعرف أنه يضغط على أعصاب الرئيس «السادات» ولكن القضايا فى تلك الساعة كانت أكبر من الأشخاص والمشاعر.

ويبدو أن حافظ إسماعيل كان قد تحمل فوق طاقته، ووجد ما تصور الآن أنه فرصة مناسبة ليقول رأيه، وبطريقته فى الأداء واختيار الألفاظ قال بصوت يبدو فيه التأثر: «سيادة الرئيس، ليس هناك ما يدعونا إلى هذه العجلة. وأنا أخشى أن يكون إخواننا العسكريون قد أعطوا سيادتك صورة مبالغة فى تشاؤمها. وأنا أسلم أن الموقف خطر، ولكنى أعتقد بأمانة أن القوات قادرة على مواجهته حتى».

ولم يتركه الرئيس يكمل عرضه، فقد هم واقفا نصف وقفة فى مقعده، وصاح فى السيد حافظ إسماعيل «جرى لك إيه يا حافظ؟ جرى لك إيه يا حافظ؟ أنت راجل عسكرى يا حافظ وتعرف أن احتياطيك الاستراتيجى خلص يا حافظ». وحاول إسماعيل أن يكتم مشاعره. وأدرك كل الذين رأوا المشهد أن الرجل فى هذه الثانية لم يعد فى طاقته أن يحتمل أكثر. وكتم مشاعره، وبانت محاولته لكتمانها من الطريقة التى راح بها يضغط أسنان فكيه. والتزم الصمت طول المساء.

وعاد هيكل يتساءل: «هل تم الاتفاق فعلا على وقف إطلاق النار عند منتصف الليل.. هذه الليلة»؟ وقال السادات»: «أيوه.. وأنا أريد أن أعطى أولادى فى الجبهة فرصة أن يناموا هذه الليلة مستريحين، فهم طوال الأسبوع الماضى لم يذوقوا طعم النوم».

ولم يستطع هيكل أن يكتم رأيه، فقال للرئيس: «أنت أول من يعلم بتجاربنا مع إسرائيل فى وقف إطلاق النار وكسره. وذلك أمر تكرر منذ هدنات سنة 1948، ولا يجب أن نكرره الآن. ورأيى أنه لابد أن تكون هناك رقابة على الأرض تحفظ خطوط وقف إطلاق النار من أى تعد عليها بعد سريان وقف إطلاق النار. واقتراحى المحدد هو أن نطلب من السكرتير العام للأمم المتحدة إرسال قوة مراقبين قبل أن يسرى وقف إطلاق النار». واعترض السادات بأنه ليس هناك وقت لمثل هذا الطلب. فإجراءات تنفيذه سوف تستغرق أياما». ورد هيكل بأنه يعرف أن هناك قوة للأمم المتحدة فى قبرص، وأن فالدهايم (السكرتير العام للأمم المتحدة) يستطيع إرسال مجموعة من ضباطها إلى خطوط التماس بين القوات حتى لا يقوم الإسرائيليون بعمليات تؤثر على سلامة القوات وسلامة الجبهة.

وبدأ السادات يتضايق قائلا: «قلت لك إن هذا ليس وقته الآن. فقد وافقت على موعد وقف إطلاق النار وانتهى الأمر». وقال هيكل: «كيف نستطيع أن نقبل الاحتكام إلى قانون لم يأتِ بعد قاضيه». ورد الرئيس بحدة: «أنت ما زلت تتكلم على قديمه. هذا وقف إطلاق نار من نوع مختلف، وراءه ضمان القوتين الأعظم، وليس وراءه فالدهايم العاجز وضباطه الأكثر عجزا فى قبرص». ورد هيكل بأن «القوى الأعظم لا تستطيع أن تضمن مواقف تكتيكية على مواقع قتال محدودة فى جبهات بعيدة، لكن هذه المواقع يمكن أن تحدث فارقا هائلا بين أطرافها على الأرض». وانتهى الحوار بعد ان غادر هيكل تاركا الرئيس للراحة.

الرئيس حافظ الأسد وسط الجنود على الجبهة في الجولان

يوم 22 أكتوبر

يصف الكاتب الكبير يوم 22 أكتوبر بأنه يوم «من أخطر أيام التاريخ المصرى المعاصر» كانت القمة ـــ فى صباح ذلك اليوم ــــ فى القاهرة فى حالة تثير المخاوف وتجلب الهموم. فقد كانت كل مراكز صنع القرار أو التأثير عليه فى عزلة عن بعضها. لم يكن مركز منها على اتصال بآخر بطريقة منظمة، ولا كان مركز فيها على علم كاف بالحقائق العسكرية أو السياسية.

ويضيف هيكل بأن السادات كان وحده فى قصر الطاهرة، وقد علق آماله كلها على مهمة كيسنجر فى موسكو، وترسخ لديه يقين كامل بأن «ساحر فيتنام» (كيسنجر) سيمارس سحره فى أزمة الشرق الأوسط. وحينما جرى لفت نظره إلى اختلاف الظروف، كان رده بحدة «إن هناك عاملا ثابتا مهما تغيرت الظروف وهو أن كيسنجر يريد أن ينجح، وأن يحافظ على سمعته الأسطورية التى بناها فى السنوات السابقة». وحينئذ قيل له إن كيسنجر يمكن أن ينجح على الشروط الأمريكية وربما الإسرائيلية أيضا، لكن السؤال هو إذا كانت هذه الشروط تلائم الموقف العربى فى أزمة الشرق الأوسط؟ وفى كل الأحوال، فإن الشىء الوحيد الذى يمكن أن يؤثر على كيسنجر، وهو يخوض امتحانه من أجل النجاح هو صلابة الموقف العربى، وليس أى ثقة «غيبية» من العرب فى كفاءاته.

والشاهد أن المناخ فى قصر الطاهرة صباح ذلك اليوم كان معبأ بشحنات مكهربة ظهرت لأسباب حقيقية فى الأيام الأخيرة، ولكنها راحت تتزايد بسرعة شديدة، وقد بدا أن الحرب تجتاز ساعاتها الأخيرة قبل وقف لإطلاق النار قادم دون شك خلال ساعات.

وأحس هيكل بهذه الشحنات المكهربة فى قصر الطاهرة عندما وصل فى ذلك الصباح 26 أكتوبر، واتجه قبل أن يلتقى بالرئيس إلى مكتب الشئون العسكرية، حيث وجد العقيد عبدالرءوف رضا وقد وضع كفيه على رأسه، واستند بكوعيه على مكتبه. وحين سأله هيكل عن أسباب علامات التشاؤم البادية عليه، بدا أن العقيد رضا على وشك الانفجار.

بدأ مدير مكتب الشئون العسكرية للرئيس موجها كلامه لزائره هذا الصباح، قائلا: «إننى أريد أن أكلمك كوطنى أولا.. إن مصر فى خطر». كانت البداية عى هذا النحو مفاجئة. وجلس هيكل على مقعد أمام العقيد رضا ورجاه أن يتحدث إليه بصراحة وبطريقة مرتبة. وكانت الصورة التى طرحها مدير مكتب الشئون العسكرية على النحو التالى:

إن الرئيس لا يستمع إلى مستشاريه وأحيانا لا يقابلهم. وحاول هو أن يعرض عليه بنفسه صورة للموقف العسكرى، فلم يتمكن. كما أن الأجواء فى القيادة العامة ملبدة ومتقلبة. ويكفى أن هذه القيادة فى ظرف 24 ساعة غيرت الصورة أمام الرئيس من الوردى إلى الأسود «مرة واحدة دون ظلال». فيوم 19 أكتوبر كان رأيهم أن قفل الثغرة ممكن، ويوم 20 أكتوبر أصبح رأيهم العكس. وهو لا يريد أن يضع مسئولية على أحد بالذات، ولكن الحقائق تتحدث عن نفسها.

وأضاف أن هناك حالة من الإحباط والغضب بين شباب الضباط فى هيئة العمليات، فهؤلاء الضباط كان لهم دور كبير فى دراسة ووضع تفاصيل الخطة، نجحت خطتهم فوق ما كان يتوقع أحد، ومع ذلك فقد رأوا القرارات تصدر لأسباب غير مفهومة بالنسبة لهم وتؤثر على بنيان وتماسك الخطة.

لكن الغريب، رغم ذلك كله، أن الموقف على الجبهة قد تحسن فى الساعات الأخيرة بطريقة تدعو للاطمئنان. فالطوابير الإسرائيلية الزاحفة يتعطل تقدمها، وهى تواجه مقاومة عنيدة فى كل القطاعات تقريبا، ولحقت بها خسائر كبيرة جدا. وهذه كلها عناصر يمكن استغلالها. وحتى إذا كان وقف إطلاق النار سيجىء اليوم، فإن تدعيم الموقف على الجبهة وترسيخ ثبات القوات المصرية يمكن أن يكون له مردود سياسى كبير حتى فى حالة وقف إطلاق النار.

ويؤكد الكاتب الكبير على أن رغبة الرئيس السادات فى الاحتفاظ بكل خيوط الموقف فى يده كانت ظاهرة فى تصرفاته فى الأيام الأخيرة التى بدا فيها أن الحركة الرئيسية فى الموقف على وشك أن تنتقل من المسرح العسكرى إلى المسرح السياسى. وتجلت هذه الرغبة حتى فى بعض المواقف البسيطة. فقبلها بأربع وعشرين ساعة، وعندما أعلن عن وجود كيسنجر فى موسكو، اتصل الدكتور عزيز صدقى، رئبس الوزراء بهيكل، وطلب إليه أن ينقل للرئيس استعداده للذهاب إلى موسكو فورا لكى يقوم باتصالات مباشرة مع القادة السوفييت، وفى مقدمتهم «ليونيد بريجنيف» الذى تربطه به علاقة قديمة ووثيقة. وحين عرض «هيكل» هذا الاقتراح تليفونيا على السادات لاحظ أن صيغة رفضه للاقتراح كانت حادة. فقد قال بضيق: «لا، لا، لا، لا، داعى لمثل هذا الكلام الآن. أنا أريد أن تكون الخطوط مباشرة، ولا أريد بينى وبين بريجنيف وسيطا. عندى هنا التليفون المباشر على فينوجرادوف، وهو (أى فينوجرادوف) عنده الخط المباشر مع بريجنيف».

كيسنجر فى إسرائيل

انتهى كيسنجر من اجتماعه الثانى مع بريجنيف قبل الفجر بقليل. وعاد إلى السفارة الأمريكية يتصل بالرئيس نيكسون ويعرض عليه ما توصل إليه مع بريجنيف، واقترح عليه أن يكتب رسالة شخصية منه إلى جولدا مائير تمهدها نفسيا للقاء معه (أى كيسنجر) عندما يصل إلى إسرائيل فى ظرف ساعات، وتم ذلك بالفعل بعد أن وضع كيسنجر مشروع الرسالة، التى لفت فيها نظر جولدا مائير إلى أن «مشروع قرار وقف اطلاق النار يترك قواتكم فى المواقع التى وصلت إليها، ولا توجد فيه على الإطلاق أية إشارة مع أى نوع إلى كلمة الانسحاب. وأنه لأول مرة تمكنا من إقناع الاتحاد السوفييتى على موافقة منه بمفاوصات مباشرة بين الأطراف ودون أى اشتراطات أو قيود، وأن تتم المفاوضات تحت الرعاية الملائمة».

كيسنجر في لقائه مع جولدا مائير

كانت انطباعات كيسنجر عند وصوله إلى إسرائيل فى الساعة الواحدة من بعد ظهر هذا اليوم (22 أكتوبر) أكبر شهادة لحجم الإنجاز الذى حققته الجيوش العربية فى ميادين القتال. وكان التأثير الأكبر الملحوظ هو تأثير أداء الجيش المصرى. وسجل كيسنجر انطباعاته فى مذكراته، وكان أهم ما سجله على النحو التالى:

1ــ لقد أحس لحظة وصوله أن صلابة إسرائيل قد امتحنت، وأنها كانت على وشك الانكسار، وأن الجميع بمن فيهم الجنود الذين رآهم فى مطار «بن جوريون» كانوا متلهفين إلى قرار بوق إطلاق النار.

2ــ ولاحظ أن الجنود والمدنيين الذين تجمعوا فى المطار راحوا يصفقون له، وقد وصفهم بأنهم «كانوا رجالا على حافة كارثة، وأنهكتهم الحرب ولمعت الدموع فى عيون كثيرين منهم، وهم يتصورونه مخلصا ومنقذا».

3ــ إنه عندما التقى بالقادة الإسرائيليين وبينهم جولدا مائير وأعضاء مجلس الوزراء والقادة العسكريون أحس أن التجربة العنيفة التى مروا بها أثرت حتى على ملامح وجوههم، وعلى تركيبهم البدنى. وعلى معنوياتهم. وأحس أنهم يريدون أن يتظاهروا أمامه بالتماسك، لكن تماسكهم كانت تنقصه نبرة الثقة الإسرائيلية التى عرفها من تجارب سابقة.

4ــ إنه شعر تحت السطح الإسرائيلى بانكسار يصعب إخفاؤه، فهالة الجيش الذى لا يقهر جرى تدميرها فى الأيام الأولى من الحرب. وأفلتت إسرائيل من الهزيمة بالكاد، بصرف النظر عن أنها تمكنت فى الأيام الأخيرة من القتال من احتلال أرض عربية جديدة.

وبدأت المحادثات بينه وبين جولدا مائير، التى قالت فقالت بصراحة: «إن جيش الدفاع الإسرائيلى يحتاج إلى ثلاثة أيام إضافية أخرى لكى يحقق أهدافه على الجبهة المصرية»، وأراحها كيسنجر حين ألمح لها أن «جيش الدفاع يستطيع مواصلة عملياته بعد وقف إطلاق النار، على الأقل طوال المدة، التى تستغرقها طائرتى من هنا إلى واشنطن علما بأننى سوف أتوقف ساعات فى لندن».

 



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك