بيض أمي وأمك - كارولين كامل - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بيض أمي وأمك

نشر فى : الإثنين 1 مايو 2023 - 9:15 م | آخر تحديث : الإثنين 1 مايو 2023 - 9:15 م
احترت فى عنوان المقالة من قبل أن أشرع فى كتابته، فالمتن يتناول الحكى عن «البيضة الحزينة»، ويتخلله الحنين إلى «البيضة بخيرها» التى كانت تعدها لنا أمهاتنا مقلية، واستقر بالى على أن أكتب بوضعية القعدة على الكنبة، ومصمصة الشفايف والحديث عن الماضى بتلك النبرة الوقورة التى تستحضر زمنا كانت فيه الأشياء بخيرها، مقارنة بما نجده اليوم، ربما لن تنطلى هذه التمثيلية على الكثيرين، ولكن «ما تيجوا نشوف».
• • •
كنت فى منزل صديق برفقة عدد من الأصدقاء، نعد الطعام فى المطبخ، ويتولى كل منا مهمة، وعندما أخرج صديقى علبة كرتونية تحوى أربع بيضات وقدمها إلينا بطقس احتفالى، مشددا على أن نتوخى الحذر فهى بيضات غالية أتت من فرخة تربت فى الطبيعة الأم، حيث تلتهم جذور الكرنب وورق الخس وديدان الحقل، ولم تأكل العليقة المصنعة مثل فراخ المزارع الكبيرة.
سخرت من كلامه عن إضفاء قيمة لبيض لا يختلف عن أى بيض فى السوق، ثم أخبرته أننا نحتاج بيضا أكثر، جاوبنى أن ما بين يدى هو آخر المتاح لديه، فاقترحت أن نتصل بالسوبر ماركت، رفض وأخبرنى إنه لا يشترى بيض الأسواق، ظننتها دعابة فرضها الموقف، إلا أنه عاد وأكد لى أنه يشترى هذا البيض من مشروع للمنتجات الأورجانيك، وهو ما ذكره بـ«بيض أمى وأمك»، كاد تعليقه المضحك أن يُسقط البيض الذى يحمل رائحة الماضى من بين يدى.
روى لى عن وقوعه فى غرام هذه البيضة، بعد أن كسر أول واحدة فى طاسة ورأى عين برتقالية اللون، تسبح فى السمن كتلك التى اعتادت والدته أن تعدها له فى طفولته، وهو ما يختلف عن قرينه من البيض الذى صار هو يشتريه والمتاح بشكل عام فى الأسواق حاليا، حيث صفاره دوما باهت، وكأنه فردة شراب غُسلت حتى بهت لونها، ولا نزال نلبسها لأننا لا نملك غيرها.
كلام صديقى عن جودة البيض الذى تربى عليه ويفتقده ويفتقد معه والدته، ذكرنى بأول مرة دخل علينا والدى وهو يحمل كرتونة بيض، وضعها أمامنا، ثم قدمها لنا بنبرة ساحرة «ده بقى بيضة بصفارين»، وطوال شرحه العلمى لنا عن سبب وجود بيضة بروحين تفقس كتكوتين، كنت أنا مبتسمة وأفكر كيف أوجدت لى هذه الفرخة المبروكة حلا لمشكلتى الأليمة مع نفورى من البياض، إلا أن والدى خطف بهجتى، وقال لى «البياض جواها مش أقل.. هى نفس النسبة الطبيعية»، إلا أنى كنت محظوظة أن والدى كان يبادلنى البياض بالصفار، ولكن بهذه الحسبة الجديدة، فإن فى كل مرة سوف أحصل على أربع صفارات عوض اثنتين.

البيضة الحزينة

منذ عدة سنوات حصلت على منحة الإقامة الفنية فى سويسرا التى تقدمها مؤسسة بروهيلفتيا، للعمل على كتابة روايتى الأولى «فيكتوريا»، كنت فى مدينة صغيرة نسبيا اسمها «فينترتور»، ولا مجال للحديث الآن عن تجربتى هناك بأكملها، ولكن السوبر ماركت كان أول عقبة فى طريقى للشعور بالتكيف، ليس بسبب اللغة وحدها وأن قلة ممن التقيت بهم هناك يتحدثون الإنجليزية، ولكن بسبب وفرة الاختيارات لحد أصابنى فى إحدى المرات بنوبة هلع وهى المرة التى اشتريت فيها البيض بعد ربع ساعة من محاولة اكتشاف الفرق بين كل بيضة وأخرى.
كان هناك حامل ضخم يضم العشرات من أنواع البيض، وتتفاوت الأسعار بشكل واضح، ولم أكن أعلم سبب الاختلاف، هل منهم مسلوق مثلا، أو بداخله هدايا على سبيل المنافسة، ولهذا يرتفع سعره، حتى لطشنى ذهنى وذكرنى أن الأرخص يناسب خطة توفير جزء من مال المنحة، حتى أسافر بعد انتهائها لزيارة دول أخرى.
قبل نهاية إقامتى كنت قد كونت صداقات مع سويسريين، وقرر أصدقاء ألمان وإنجليز أن يأتوا لزيارتى، وصرنا مجموعة لطيفة واتخذنا قرارا بإعداد وجبة كبيرة تضم مطابخ مختلفة، اصطحبتهم إلى السوبر ماركت، وتولى كل منا شراء جزء من الوليمة، اخترت أنا البيض بعد أن صرت متخصصة، رافقنى صديق سويسرى، وعندما نظر إلى ما أحضرته، سألنى بهلع لماذا فعلت هكذا، واشتريت هذا النوع من البيض؟.
حكيت له باختصار عن حيرتى منذ اليوم الأول واختيارى للأرخص، مد يده وأحضر علبة بيض هى الأغلى، وسألنى عن رأيى فى هذه العبوة، رفعت حاجبى ولم أجاوبه، أشار إلى الصورة الموضوعة على العلبة، فكانت لدجاجة فى مزرعة تقف بشموخ وتبدو أفخاذها سمينة شهية، وهذا ما قلته له بالإنجليزية وأنا أضحك، إلا أنه لم يضحك، وقال لى «دى فرخة سعيدة.. تعيش فى بيئتها الطبيعية.. وتقدم لنا بيضة سعيدة».
ولم تكن العلبة فى يدى مطبوعا عليها سوى اسم الشركة (وهى شركة سويسرية شهيرة فى كل مجالات التغذية) ، لم يبدُ على وجهى أنى قد استوعبت كلامه، فحكى لى أنهم يناهضون الشركات الكبيرة التى تضع الحيوانات فى مساحات تشبه ساحات التعذيب، فتعيش ملتصقة بعضها ببعض، ولا مكان لخطوة واحدة، تقضى حياتها ــ ولحين خروجها للجمهور ــ داخل هذه المستعمرات، وما تنتجه من لحوم وبيض مُحمل بكل هذه المرارة والعذاب، ومناهضة هذه الشركات يأتى بمقاطعة منتجاتها وهو واجب أخلاقى لسببين الأول احترام حقوق الحيوان، والثانى لأن العلم أثبت أن المشاعر السلبية تنتقل إلى البشر بتناولهم لهذه الحيوانات المعذبة.
وبطريقة استعراضية قدم لى بيض «الفرخة السعيدة»، التى تستحمى بنور الشمس، وتجرى فى المروج مع شقيقاتها الدجاجات، وتلهو حيوانات المزرعة كلها، نظرت إليه وكان وجهى قد تجهم بالفعل، فمجرد تصور الحيوانات المعذبة كفيل بمقاطعتى للحوم، وإن كنت لم أقوَ على هذا القرار بعد، ولكن فى الوقت ذاته وضعى المالى لا يسمح بأن أتخذ مثل هذا الموقف الداعم لمزرعة «جدو على» فى مواجهة الرأسمالية الجشعة.
• • •
«حياة الفرخة الحزينة دى.. وانعدام الحيز والمساحة الشخصية.. متختلفش كتير عن حياتى أنا شخصيا كإنسانة فى مصر.. ولو على التعاسة اللى فى البيضة.. أنا بطنى تهضمها وتطلعها نكت كمان» تعاطف الصديق مع جملتى الساخرة، ولكنه أصر على أن يدفع هو ثمن البيض، وأشترى أنا شيئا مختلفا، فاخترت أن أشترى الدقيق، اعترض مرة أخرى أنى اخترت الأبيض، وأن به جلوتين حتى وإن كنت لا أتحسس منه فهو مُضر للجسد والنفس، فى هذه اللحظة تصورت حالى دجاجة بلدى مصرية غاضبة وأنقره فى جبهته، ولكنى ابتسمت وأعطيته عشرة فرنكات يشترى لنا ما يراه مناسبا وآدميا.
يُمكننى الاستغناء عن أكل البيض أوقاتا طويلة، وعند عودتى لمنزل أسرتى أجد «بيض أمى وأمك» فى انتظارى، خاصة عندما يشترون البيض البلدى من الفلاحة التى تُحضر لهم اللبن كل يومين، ولكن حتى أسعار هذا البيض المتاح فى السوق وليس الأورجانيك «بتاع صديقى» يبدو لى الآن بعيد المنال عن الكثير من الأسر، خاصة التى لديها أطفال فى مرحلة النمو بحاجة إلى البروتين كل يوم، أتمنى أن يكون البيض أيا كان مصدره على مائدة هؤلاء فى وجباتهم، ليتسنى لهم فيما بعد الجلوس مع أحفادهم أو قرائهم، يتندرون على افتقادهم لبيض أمهاتهم، إن كان المستقبل يحمل لهم ولنا موائد عليها بيض بالأساس.
كارولين كامل صحفية مصرية
التعليقات